المقامر الذي أخرجني من العزلة

طوال الوقت كنت أفكر أنني يجب أن أتواجد داخل هذه الحرب، لا على حوافها. كغيري أردت أن يكون لي دور فاعل في هزيمة الثورة المضادة التي قادها صالح ومعه جماعة الحوثي على شكل حرب هي مستمرة الآن منذ أكثر من عامين. لقد فشلت في أن أصبح مقاتلا، وعشت طوال أشهر، في بداية الحرب، عزلة مريرة. حاولت طوال الوقت الخروج من هذه العزلة، ونجحت قليلا أو كثيرا، لكنها ستنتهي بمجرد سماعي لقصة المحارب المقامر.

أحلامنا التي جاهرنا بها، تلك التي ورثناها عن أبائنا وأجدادنا دون أن نعيرها الاهتمام الكافي، أصبحت فجأة هي كل ما يستحق أن نعيش لأجله. قسوة الحياة وتكالبها، هي من تحول الحقوق البسيطة إلى أحلام. في صيغة يسهل توريثها لأجيال ستأتي وسيكون محكوم عليها بالعيش رغم كل الظروف.

في ثورة فبراير، لم نكتشف فقط تلك الأحلام، كنا قد أعدنا اكتشاف أنفسنا من جديد. امتلكنا الثقة الكافية التي ستجعلنا نصرخ بعد مارتن لوثر كينج: نحن أيضا لدينا حلم.

وكما هي طبيعة كل ثورة مضادة، فقد بدأت من تلك اللحظة التي فشلت فيها الثورة في التقدم أكثر. وهكذا لم يتفتح الحلم ولم يكبر إلا في صدورنا. وجاء الوقت الذي سيكون علينا أن نقاتل لإخراج الحق من عالم المثال إلى عالم الواقع.

خلال الفترة التي أعقبت الثورة وسبقت اندلاع هذه الحرب، كان الشتات قد تكفل بصناعة مصائر مختلفة لكل أولئك الشباب الذين صنعوا البدايات المشرقة واللحظات الأجمل في تاريخ هذا البلد.

ربما ساعدتنا الثورة في أن نعثر على ذواتنا بشكل أفضل، وعندما اتضحت لنا معالم الطريق، انطلقنا غير أبهين بما سيترتب على عدم الاكتراث هذا. لعل هناك من فكر أن المهام الملقى على عاتقه قد أُنجز وتبقى أن يقوم الآخرين بدورهم.

حسنا لقد أصبحت صحفيا، يستطيع أن يعثر لنفسه على فرصة عمل غبية، بدلا من كابوس البطالة الذي ظل يتراءى لي إلى اللحظة التي ستسبق اندلاع الثورة. ذلك الكابوس كان يتفنن في رسم حياتي على شكل جحيم لا ينتهي. لقد درست القانون في كلية الحقوق وأنا أعرف بأني لن أكون محاميا. أفضل أن تقتلني على أن تجبرني على الدخول إلى إحدى تلك المحاكم التي لا تحتكم سوى لقانون الفساد. لم يكن "كافكا "مخطئا وهو يتصور أن هواء تلك الأقبية فاسد ويجعلك تختنق.

عندما اندلعت الثورة، وجدت نفسي وسط أمواجها الزاهية. خيل لي في لحظات كثيرة، أن كل هذه العظمة قد صنعت خصيصا لأجلي، كتعويض عادل عن كل البؤس والحرمان الذي عشته منذ أن بدأت أعي وجودي. شعرت أيضا لأول مرة أنني استطيع أن أكون أي شيء أريده.

بالطبع، كانت الأشهر التي أعقبت تخرجي من الجامعة، وكانت أسرتي قلقة من كوني شخص فاقد الحيلة ولا يستطيع العثور لنفسه على عمل. هذا القلق كان كابوس إضافي، سيشعرني كم أنني فاشل. في مثل هذه الأوقات العصيبة يصبح الانتحار فكرة عملية وجهها الآخر هو الجنون.

من وسط الحشود، استقطعت بعض الوقت، وحررت رسالة (sms): لا تقلق أبي. لقد اندلعت الثورة. أعدك بأني "سأصير يوما ما أريد".

لن يقلق أبي إلى أن تأتي الحرب التي ستصنع مني شخصا منعزلا، يجيد صناعة القلق لكل من حوله. لا أحب العزلة، لولا أن الخيبات قد تراكمت، لدرجة أن الحياة عادت من جديد لا تطاق.

فكرت أنني أريد الالتحاق بالقتال. لا شيء يستحق أن يموت المرء لأجله سوى الثورة. أملي وأمل الجموع المقهورة. سواء أصبحت أنانيا أو عكس ذلك، فالثورة هي أجمل شيء حدث لي حتى الآن.

لكني شخص أدمن العيش في عوالمه الداخلية. بينما القتال يعني النباهة قبل كل شيء. ثم أن الجميع يخبرني أن القتال ليست الفكرة الصائبة طالما يمكنني القتال بطريقة أخرى: أنت صحفي وتجيد الكتابة لماذا لا تقاتل بقلمك؟

كنت صحفيا. فالثورة التي صنعت مني صحفيا، تلاشت، لأجدني خارج حلم جميل. في حضن بؤس يتسع. من جديد شخص عديم الفائدة.

مع ذلك حاولت الاقتراب. حافظت على الثورة كفكرة لابد أنها ستعود وتصبح واقعا مرة أخرى. غير أن الآلة الدعائية الضخمة للثورة المضادة لن تتركك تعيش في سلام. فهي لا تتوقف عن القول أن الثورة قد ماتت وان من يقاتل الآن باسم الثورة هو الإرهاب وكل أمراض الماضي.

حتى وأنا لا أريد أن أصدق ذلك، عندما نجحت في الخروج من العزلة، اكتشفت أية سطوة كنت قد وقعت تحتها.

لكن كيف نجحت في الخروج من العزلة؟

إليكم القصة:

قبل أشهر استشهد أحد رفاق الثورة، كان يقاتل من جديد تحت لوائها فأنفجر فيه لغم. لم تكن الحادثة الأولى التي ستجعلني أكتئب لأيام، وأزيد من إمعاني في العزلة أو لنقل في العودة إليها من جديد.

أخبرني بعض الأصدقاء أنهم يفكرون أن يذهبوا لتقديم واجب العزاء لأسرة ذلك الصديق. لقد توقعوا أنني سأنضم لهم. لكن الذي لا يحضر الجنازة، لديه سببه الذي يجعله يمتنع عن حضور العزاء. لم أشرح لهم الوضع بالتفصيل لكنهم تفهموا وضعي.

في اليوم الثاني قابلت أحد الأصدقاء ممن شاركوا في تقديم العزاء. سألته وأنا لا أريد أن أعرف كيف وجدوا أسرة الصديق الشهيد؟

ربما قال أن معنوياتهم مرتفعة، ثم آخذ يسرد لي حكاية المقاتلين هناك.

كانت إحدى تلك الحكايات، أن رجل ستيني، يقاتل في إحدى منحدرات الجبل المطل على المدينة دفاعا عن الثورة. أنا حقا أعرف أن كثيرين يقاتلون دفاعا عن الثورة، لكني لا اعرف بماذا يمكن أن يفيدني هذا؟

قال ذلك الصديق بأن الرجل الستيني يرفض أن يأخذ الذخيرة من أي شخص. لديهم مشرف عسكري يتبع اللواء 35 المنحاز للشرعية، وهو من يوزع الذخيرة بين المقاتلين، وهناك قادة في المقاومة يقومون بنفس الدور، غير أن الرجل الستيني يظل يرفض.

أعترف أن الأمر كان قد أثار فضولي.

أكمل الصديق وقال بأنه يتمون بالذخيرة من بيته قِمر (عناد) لعلي عبدالله صالح. فهو لن يترك له فرصة أن يقول عنه بأنه مرتزق.

ـ هل قال قِمر؟

ـ نعم قال قمِر وكلام كثير عن الثورة التي يجب أن تنتصر.

شعرت حينها أن شيء ما استيقظ بداخلي. ودعت صديقي، وأنا أخبر نفسي: هذا هو بطلي. هذا هو الرجل الذي يجب أن أقاتل إلى جانبه.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص