المشهد الطائفي في اليمن والتهديدات القائمة

تدور في اليمن رحى حرب منذ أكثر من عامين. فما موقع الطائفية من هذه الحرب؟ هذا هو السؤال الذي بنيت عليه هذه الورقة.
في حقيقة الامر هذه الحرب هي خليط من عدة عوامل لكنها ليست حربا طائفية وذلك لأمرين:
انها حرب بين دولة شرعية منتخبة وانقلابين هما تحالف بين جماعة الحوثي وصالح. ودخول صالح؛ الرئيس السابق، في هذه الحرب جعلها غير دينية لان صالح ينتمي أولا لذاته الشرهة المريضة بالحكم والسيطرة ولأنه ينتمي إلى القبيلة قبل انتمائه الى المذهب. وان كانت الحركة الحوثية هي الطرف المذهبي الأكثر وضوحا في معادلة الحرب والانقلاب هذه.
ثانيا لأن الدولة في اليمن ليست مذهبية فهي حكومة تشكّلت في فترة انتقالية في بلد عرف شئياً من الديمقراطية وتعدد الاحزاب وكان ان تقاسمت الأحزاب المواقع الوظيفية على أسس حزبية وجهوية لا مذهبية.
وعموماً، لم يكن للمذهبية الدور الأكبر في الحروب اليمنية البينية المتكررة كثيرا. وان كان الخطاب العام لا يخلو من نعرات مذهبية لكنها لم تنتقل الى مرحلة الفعل في القرن الأخير على الأقل.
إلا إنه لا يمكن تجاهل البعد المذهبي في اليمن وسنأتي على تفصيل ذلك.

قادت الاحداث التاريخية في اليمن إلى تمايز لونين مذهبيين بأغلبية كبيرة تندرج تحتهما اطياف أخرى من الممارسات والمشارب المذهبية ووجود أقلية يهودية يمنية أصيلة تضاءلت مع الوقت وتكاد تندثر حالياً بفعل التضييق عليها من طرف الحوثيين حيث شهد اليمن هجرة آخر مجموعة من يهود اليمن من صنعاء العام المنصرم إلى إسرائيل تحمل معها واحدة من الكنوز الثقافية الآثارية الهامة جداً.
وكانت الأرضية قد استوت نتيجة لأحداث تاريخية إلى اقتسام للجغرافيا وفقا لخطوط مذهبية شبه واضحة تتربع فيها أكثرية سنية في بعض مرتفعات متاخمة لسهول وتهايم وصحاري اليمن مقابل شبه أكثرية زيدية في المرتفعات الجبلية.
ومع كل التحولات في الحكم المرتكز على المذهب لم تكن الجغرافيا المذهبية ثابتة في يوم ما، بل جرى تحول وتبدل وتلاقح وتقارب في أحايين كثيرة وتنافر في أحايين أخرى. 
وكان القرن العشرين منطلق تحولات جيوبوليتيكية هامة في اليمن الذي كان في شطر منه يخضع للسيطرة العثمانية والشطر الآخر يرزح تحت الاحتلال البريطاني مباشرة او كمحميات في الأغلب. وما إن بلغ القرن المنصرم منتصفه حتى كانت الخارطة اليمنية في أشد حالات التشظي.
وان كان الشطر الشمالي من اليمن قد آل مجدداً الى حكم الائمة المرتكزين في قاعدتهم الفقهية في الحكم على المذهب الزيدي فان ذلك الشطر لم يكن زيدياً خالصاً بلغة المذهب بل كان مناصفة بين زيدية وشافعية بصفة عامة. على عكس الشطر الجنوبي الذي يبدو أكثر انسجاما مذهبيا.
وصحيح القول ان الذاكرة الجمعية نتيجة لاضطهاد الائمة لليمنيين عامة ولتجنيد بعظهم الزيدي على بعضهم الشافعي كانت تغص بكثير من التصورات المؤلمة والحكايات المؤسطرة في بعض منها. إلا أن الصراع الجمهوري/ الملكي في الستينيات عقب ثورة 26 سبتمبر كان صراعاً سياسياً واجتماعياً بامتياز، لم تظهر عليه الصبغة المذهبية. وعملت الجمهورية الفتية على تفادي الصراع المذهبي من خلال تقنين الأحكام الشرعية وصيغت الأحكام وفق لوائح وقوانين وتشريعات متجاوزة للفارق المذهبي. 
علماً أن الفارق المذهبي لم يكن جوهرياً على مستوى العبادات والمعاملات وأحكام الأسرة والمواريث. بينما قادت ثورة الاستقلال في الجنوب إلى تأسيس دولة بايديولوجيا موضوعية أزاحت العامل الديني من المشهد وانشأت تشريعات تقدمية على مستوى المنطقة والعالم العربي.

لكن رياح العولمة مع بداية التسعينيات - التي صادفت أيضا تحولاً جيوسياسياً هاماً في اليمن يتمثل بإعادة توحيد البلاد في العام 90 - أذكت الانتماءات السابقة على الدولة ، وقد يكون مرد ذلك فشل مشروع الدولة وقدرتها على تشكيل فضاء عام مستوعِب للتنوع والتعدد، والنكوص السريع في مشروع الوحدة نتيجة لاندلاع حرب أهلية تركت جرحاً غائراً لم تُدّخر فيها فرصة توظيف العامل الديني في هذه الحرب من خلال تجييش تيار ديني متشدد لصالح طرف ما.
قبلها بسنوات كانت الثورة الاسلامية في إيران قد أوقدت نار الطائفية في المنطقة من خلال قيام نظام ديني يعطي أولوية لتصدير ثورته ونهجها المذهبي مقابل ازدهار للحركات السلفية ولتيار الإسلام السياسي. ونتيجة لذلك بدأ الاستقطاب المذهبي يمس اليمين وتجلى منذ الثمانينيات وكان من مخرجاته الحركة الحوثية التي ظهرت إلى العلن بالعنف من خلال حروبها مع الدولة منذ 2004.

والحركة الحوثية هي حركة إحيائية أصولية تعمل على موضعة المذهب جغرافياً أي منح الجغرافيا هوية مذهبية أو بالفرنسية territorialiser l’aspect confessionnel ، احتكار التمثيل وهي بهذا تقدم بنية مذهبية طاردة واقصائية ولا يتوقف الاحتكار على الجغرافيا بل على حقيقة الايمان وموضوع السلطة والحكم. وقد اسفرت عن مقولاتها الاقصائية هذه من خلال وثيقة فكرية نشرتها الجماعة في العام 2012 بعد ربيع عربي يمني عانقت معه تطلعات التغيير والتحديث عنان السماء. إلا أن الجماعة التي كان يتوقع منها أن تتحوّل الى حزب سياسي وان تضيف دينامية جديدة في المشهد السياسي اليمني، قدمت نفسها جماعةً دينية فوق السياسة.
جعلت هذه الجماعة من خلال تلك الوثيقة الممهورة بتوقيع زعيم الجماعة الشاب عبد الملك الحوثي وثلة من رجال دين الجماعة مسألة الولاية من مسائل الايمان واحتكرت حق تفسير وتأويل النص القرآني بأبناء السلالة.
كانت تحظى بتعاطف كبير في البلاد باعتبارها خارجة من حرب نظام جائر وهذا التعاطف دفع بالناس إلى تجاهل كتاب العقيدة الخاص بها والذي بدى بطبعه عنصريا طائفيا.
مع العام 2014 تجلت حقيقة الجماعة خصوصا حين بدأت تجيش الحشود لمهاجمة عاصمة البلاد واستعدائها لطرف سياسي بعينه وتقديم نفسها كنقيض أيديولوجي لتنظيم القاعدة المتطرف.

ومع تنفيذ انقلاب على السلطة في نهاية 2014 أعلنت الجماعة التي لم تكن جماعة لاهوتية صرفة بل ميليشيا مقاتلة ومدربة خبرت الحربَ لسنوات عديدة وشحنت افرادها بعداء وكراهية المجتمع، أعلنت حربها على الدواعش بينما لم يكن أحدٌ قد سمع بتنظم داعش في اليمن. وهنا، صار كلُ مخالف لها هو داعشي.
ينبغي الإشارة الى ان الجماعة بدأت في طرد المختلفين عنها بدءً بيهود آل سالم في محافظة صعدة معقل الحوثيين في بداية العام 2007 ثم الجماعة السلفية التي كانت تتخذ من وادي دمّاج في صعدة مقر لها في العام 2014.

احكمت جماعة الحوثيين بدعم من الرئيس السابق صالح المُزاح من الحكم في العام 2012 القبضة على مفاصل الدولة واستولت على عاصمة اليمنيين وواصلت حربها جنوباً وصولاً إلى عدن، ثغر اليمن، وعاثت فساداً وتدميراً وتنكيلاً بالسكان خصوصاً في محافظة تعز والبيضاء والحديدة.
لكن هذا الإجراء الحربي الدموي لم يكن سوى واحد من تمظهرات العنف إذ وصل العنف الى الكتاب المدرسي وإلى منابر المساجد ودور العبادة ورجال الدين.

الخطورة والتهديد الأمني
وتواصلا مع الحديث ضمن هذا محور هذه الجلسة فإننا سنتطرق إلى خطورة هذا التحول
في نقاط: 
• استدعاء لصراعات الماضي وضخ دماء طائفية فيها. بالتالي استدعاء لصراع أصوليات وحرب دينية لا تبقى ولا تذر من ناحية، ولكن كون الحوثية تقدم هوية منفصلة منغلقة وفي نفس الوقت فوقية على بقية فئات المجتمع فإنها أيضا اثارت إحياء نزعات هوياتية عتيقة سابقة على وجود المذهب الزيدي بكل نسخه بل سابقة على وجود الإسلام في اليمن.

• إصررا الحوثيين على خوض حربهم ضد اليمنين تحت مسمى محاربة الدواعش منح الارهاب أرضاً خصبة يتمدد عليها كمقابل موضوعي أصولي سني متشدد لأصولية زيدية شيعية متشددة. وهذا بدوره يسلب شرعية الدولة في محاربة الاٍرهاب. لأنه لا يمكن مجابهة الإرهاب بإرهاب مضاد ومن دون تفويض شعبي وعلى أسس العدالة لا الانتقام ولا التصفية المذهبية.

• تقويض الفضاء العام المشترك في صنعاء تحديدا باعتبارها عاصمة لكل اليمنيين ومركزا اداريا ثقافيا منفتحا تحول الى فضاء مشحون بالعنف والكراهية وطغى عليه اللون الواحد وجرى تشويه مدينة صنعاء القديمة هذه المدينة التاريخية الجميلة والنادرة. صارت جدرانها مطلية بشعار الجماعة المحرّض والداعي إلى الكراهية.

• تعطيل الحياة العامة وصرف الناس عن متابعة الشأن العام والمطالبة بحقوقهم من خلال تحشيدهم بشكل دائم في مناسبات دينية دخيلة على المجتمع ولا تمارس بالرضا بل بالإكراه. فقد استحدثت مناسبات دينية لا تتوقف ولا يعلو فيها إلا صوت واحد هو صوت الجماعة الحوثية وتمجيد رموزها.
• احتكار المجال الديني في البلاد من خلال انشاء هيئة افتاء دينية من لون واحد ومن سلالة واحدة تتيح للجماعة الحصول على صكوك قتل اليمنين بفتاوى دينية مقولبة.

• احتكار الحقيقية وتلغيم عقول الأطفال في المدارس بكتاب مدرسي طائفي تم طباعة بتمويل من منظمة اممية على أساس طبع الكتاب المدرسي لكنه محتواه كان حربيا حتى في امثلة تمارين الرياضيات التي تتحدث عن القنابل وطلقات الرصاص.
• وأخيرا، يمكن حسم الصراعات السياسية من خلال التوصل الى تسوية في وقت ما، لكن البعد الطائفي في الحرب لا يمكن ايقافه بسهولة لأنه المهدد الأول للنسيج الاجتماعي ومصدر لثارات اجتماعية وحروب لا تحكمها المصالح ولكن قناعات غيبية.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص