صفحة من كتاب الطفولة
 

لأن الإنسان مولع بالحنين إلى ما يفقده يلجا غالب الناس إلى تذكر طفولتهم لأنها فائتة لا محالة .
وأنا اليوم منهم .

اجمل مافي طفولتي انها كانت في مجملها في قرية صغيرة تحيط بها الجبال ، وتحتضنها الشعاب من كل جانب ، حينها كنت انظر لقريتي الصغيرة على أنها نهاية الدنيا ، ولم أكن أتصور –وأنا في سنوات طفولتي الأولى– أن هناك أرضاً غيرها ، أو أن هناك أناسا غير سكانها .

حين بدأت أكبر عرفت أن وراء الأكمة قرية أخرى ، وأناس آخرون ، ومع كبري أدركت كبر الأرض ، واحاطة السماء ، وحين تعلمت الجغرافيا وبدأت أفك طلاسم الخرائط أدركت أن اسم قريتي لم يكن موجوداً حتى في أكثرها دقة وتفصيلاً .
وقتها أدركت كن كنت طفلاً بريئاً، لا أكثر....

كنت أهوى اللعب بالسيارات ، وكنت اصنعها تارة من الحجارة ، وأخرى من علب زيت الطبخ ، وثالثة من الكراتين ، ويجمع بينها إطارات كنت انحتها من أحذيتي القديمة .

كبرت معي الرغبة بامتلاك وقيادة السيارات ولازالت حلما لم يتحقق ارقبه وارقب السنوات واصبِّر نفسي : ولكل أجل كتاب .

حين شارفت على سن الدراسة كانت قريتي بعيدة عن المدرسة بشكل لا يتخيله عقل ، وكنت لا أتخيل شكل المدرسة ، وحين ذهب بي أخي الكبير إليها لتسجيلي طلبت منه أن يريني الكراسي التي سمعت عنا في قريتنا ممن سبقني إلى الدراسة ، ولأن المدرسة كانت مغلقة الفصول ، اضطر إلى حملي على ظهره لأراها من أحد الشبابيك .

رعاك الله يا أخي .. لازلت أتذكر جيدا .

أثناء الدراسة كان لزاماً علي أن أقطع ما يقارب خمسة كيلومتر يومياً لاحظي بيوم دراسي ، وكنت مستعداً لذلك لان جيلاً سبقني قد عملها .

كان المسير إلى المدرسة صعباً والعودة أصعب ، وكان علينا ان نتزود بالماء لنواجه به ظمأ المسير ، وكان التعليم اكثر لذة حين يختلط بعرق المسير ، ومشاق الذهاب والإياب .

في سنواتي الدراسية الاولى كنت احمل بعضاً من اكياس حلوى الاطفال "المليم" ، وابيعها على الطلاب وقت الاستراحة لأوفر بعض المصاريف ، وكان مدير المدرسة يطلب مني ان لا أفعل ذلك ، وحين ذهب أخي الكبير اليه ليستفسر عن سبب المنع سمعته وهو يحدثه بعمق أن انشغال الطفل بالبيع أثناء اليوم الدراسي يجعل ذهنه أقل تقبلاً للتعليم والتعلم ، هذا يجعل الاهداف التعليمية لا تتحقق فيه ، وأن وقت الاستراحة يجب ان يظل فيه الطفل غير منشغلاً ذهنيا ليعاود الفهم خلال الحصص الأخيرة .

لم افهم ولم اتفهم هذا الحديث كثيرا حينها ، لكن حين كبرتُ أدركتُ أن هذا المدير كان حريصاً ان أعود بحصيلة علمية ، وليس بضعة قروش اتخذها مصروفا .

كان اسمه الاستاذ جلال ، لازلت اتذكر صوته المميز ، ووالده هو العلامة عبد الرحيم الأهدل رحمه الله، ولا يوجد في عدن والمقاطرة من لم يعرف فضل ومكانة هذا الرجل .

لحديث الذكريات لذة لا تنضب ..

دمتم سالمين ..

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص