قراءة في قصيدة " لا تجرح الماء " للشاعر أحمد قران بقلم / ابتسام عبدالله البقمي

نص القصيدة :

على بعد حرفين

أمضت مساءً شهيا

تهدهد ما ظل من سطوةِ الشعرِ

تمزج بيني وبين القصيدة

في لحظة للتجلي

وتأوي إلى لوحةٍ للتعاويذ

تأخذني في تماهي العبارات

لا شيء يجمعنا في المكان

سوى أننا غارقان معا

في تفاصيلنا حالة اللا حدود ..

أرى مهرةً تسبق الريح في خفتها

حين تخطو على الماء

من دون أن تجرح الماء

لا تجرح الماء

لا تجرح الماء

تأتي كما الليل

يقرأ بعض الوجوه

فلا عين لليل

قد قيل : لا عين لليل

تأتي كطفلٍ شقي يداعب ما يستلذ

فتى صاخبٍ لا يرى الله

شيخ يؤسس في سجدتين لمثواه

مثلي أفكر ...

ما المنتهى للخلود ؟

قرأت لها في المساء قليلاً من الشعرِ

حتى تدندن بي كالدعاء الموصى به

في مناماتها ..

ثم ناولتُ كفي لتقرأني كالعبادات

ناولتها قهوةً لا لتشرب منها

ولكن لتقرأني مثل عرافةٍ تجهل الحب

قلت لها

قلت :

.

.

لكنها مثل أنثى تجيد الغوايات

مرت بلا رهبة في الردود .

كتبت لها في المساء مواقيت للسحر

أن علميني الصلاة على الماءِ

ضمي تراب يدي إلى راحتيك

لكي تستعيدي تقاسيم وجهي

ومدي خطاك على الجمرِ

مدي خطاكِ

وقولي : سلام على سيد الباب

قولي : سلام على أول البرقِ

شقي عصايَ

ولا تمنحيني وصاياك

لا تقرئي حكمة العاشقين

ولا تعبري من طريق الغواية ِ

حتى نحيك معا كيف نجثو على الصرح

من غير أن نغرقَ الفُلكَ

لا فُلكَ تجري إلى منتهاها

ولا لون للبحر يشبه لون السماءِ

ولا الدربُ يمتد في البعدِ

لا النخلُ يسقط من مرتقاه

ولا الخيلُ تركض فوق الصراط المقدس

لا أنتِ ... أنتِ ...

ولا كف يشبه كفيكِ

ضدان ...شحٌ وجود .

أرى برزخاً قد تلاشى

إلى مسقطِ الضوء

قولاً حكيماً يراود أنثى

كأن السماءَ على قيد قولٍ من الحب

أني أراها تمازج بيني وبين القصيدة

بيني وبين الذي لا تراه

وبين التنبؤ بالغيبِ

بيني وبين الذي لا تراه

بيني وبين الذي شق في مقلتيها الوجود.

على بعد حرفين

كنا نقاسم أجسادنا لذةَ الجوعِ

نأوي إلى الكهفِ حتى نرى بعضنا جهرةً

ثم نتلو التعاويذ

نتلو التعاويذ

كنا نلامس أشياءنا دون وعي

وكنا نشاطر أرواحنا بعض ما تشتهي

حيث ...

لا دفتر أو شهود.

القراءة :

قصيدة " لا تجرح الماء " التي يحمل ديوان الشاعر الرابع عنوانها ، قصيدة حيرني عنوانها كثيراً ، ولم اجر على الاقتراب من عالمها حتى فتح لي الله –تعالى- مغاليق ما استغلق علي .

أقول وبالله التوفيق :

شاعرنا يحلم بالحرية وينشدها في حياته خاصة في عالم الإبداع والشعر والكلمة ، هذه الحرية التي لها سقف محدود في مجتمعاتنا العربية وخاصة المجتمع السعودي .

وهو في قصيدته هذه يخاطب الحرية وتتقارب الخطوات بينه وبينها ، لكن مع ذلك أراه " يقدم رجلاً ويؤخر رجلاً " ؛ فبقدر ما يريد الحرية ويراها حقاً مشروعاً للمبدع والشاعر بقدر ما يطالب الحرية نفسها أن تكون حذرة من المحاذير الاجتماعية والسياسية والدينية .

يبدأ القصيدة يتصور نفسه وقد منحته الحرية نفسها في مساء شهي فيقول :

"على بعد حرفين

أمضت مساءً شهياً

تهدهد ما ظل من سطوةِ الشعرِ

تمزجُ بيني وبين القصيدة

في لحظة التجلي

وتأوي إلى لوحةٍ للتعاويذ

تأخذني في تماهي العبارات

لا شي يجمعنا في المكان

سوى أننا غارقان معا

في تفاصيلنا اللاحدود ."

على بعد حرفين

أنا حر ،أمضيت مع الحرية في الكتابة والإبداع والشعر مساءً شهياً ، بالنسبة له هذا عالمه الذي يشتهيه ويستمتع به كما يشتهي غيره الطعام والشراب أو النساء ، وهذا يدل على عشق الشاعر للشعر ، " تهدهد ما ظل من سطوة الشعر " ، رغم أنه أصبح حراً إلا أن الحرية تهدهد ما ظل من سطوة الشعر ، ذلك الشعر الذي لا يعترف بالمحاذير والقيود ، الذي يجري على لسانه بقوة ولا يخشى أحداً .

كأن الحرية تهدهده تأخذه برفق وتستدعيه ، ثم لما رأت من خوف الشاعر وحذره أو خوف القصيدة والشعر مزجت بين الشاعر وقصيدته ليطلق سراحها حرة أبية في لحظة التجلي ، " وتأوي إلى لوحةٍ للتعاويذ " ؛ تتعوذ من ماذا ؟!...ربما من الشاعر نفسه أو من أولئك الذين يرهبونه أو يشطننونه أو يخونونه أو يكفرونه ...، أو ربما لتعوذه من المحاذير نفسها التي تقيده وتحد من ملكة الإبداع عنده وتجمح سطوته وعنفوانه .

" تأخذني في تماهي العبارات

لا شيء يجمعنا في المكان

سوى أننا غارقان معا

في تفاصيلنا حالة اللا حدود ."

نعم لا شيء يجمعني والحرية في هذا المكان الذي يسمح بها بحدود وقيود سوى أني والحرية غارقان معا ، يتحدث عن أحمد قران أو عن نفسه ماضيها حاضرها مستقبلها توجهاتها ، رؤيتها للفضاء من حولها بلا حدود ، ولكن رغم ذلك لا زال شاعرنا حذراً ..

" أرى مهرةً تسبقُ الريحَ في خفتها

حين تخطو على الماءِ

لا تجرح الماءَ

لا تجرح الماءَ "

يريد لنفسه الحرية في الشعر والإبداع ولكن لتعمد إلى الرمزية ولا تكن واضحاً بل كن كالمهرة في خفتها حين تخطو على الماء ، حرية ذكية لا يشعر بها حين تخطو على الماء

لا تجرح الماءِ

لا تجرح الماءِ

هل الماء قابل للجرح أصلاً ؟!....

الماء مادة سائلة عديمة اللون والطعم ، أ هي السياسة ، أ هي المرأة ، أو المجتمع وعاداته وتقاليده ، أ هي المحاذير الدينية والعقدية ؟....

نعم قد تكون بعضها أو كلها ؛ فالمبدع والشاعر إنسان حالم يحلق في فضاء الخيال ويطيل التأمل والتفكير ، وله رؤاه وأحلامه وطموحاته وتوجهاته في كل ما ذكرت ، ولكن من شدة المحاذير وصرامتها والقيود وقوتها التي تحاط بها هذه المفاهيم والمصطلحات فكأنها الماء غير قابلة أصلاً للمساس بها أو جرحها ؛ لذلك الشاعر يريد أن يكتب بحرية منضبطة مغلفة بالرمز لذلك يقول :

" فلا عين لليل

قد قيل : لا عين لليل "

كلنا يعرف أن العين رمز للرقيب ، والليل يخفي تحت جناحه ما يفضحه النهار ويؤكد ذلك فيقول :" قد قيل : لا عين لليل " ، وكأنه شعر رغم حذره وشدته حرصه أن هناك من يلومه على جرأته حتى المبهمة والمغلفة فيرد قائلاً :

" قد قيل : لا عين لليل "

ولا يزال شاعرنا يحلم بحرية حذره صنعها لنفسه أيضاً :

" تأتي كطفلٍ شقي يداعب ما يستلذ

فتى صاخبٍ لا يرى الله ..... إلخ .

وكأني به ينشد حرية دينية

" مثلي أفكر ...

ما المنتهى للخلود؟ "

وكم شقى أصحاب العقول بعقولهم ! ، ولا يزال يحكي لنا قصته مع الحرية التي زارته ذات مساء شهي :

" قرأت لها في المساءِ قليلاً من الشعر

حتى تدندن به كالدعاءِ الموصى به

في مناماتها .."

شعره كالدعاء للحرية الغائبة ، والدعاء بظهر الغيب مستجاب ، فشعري الذي ينشد الحرية يستدعيها وستأتي يوماً .

" ناولتها فنجان قهوة لا لتشرب منها

ولكن لتقرأني مثلَ عرافةٍ تجهل الحب

قلت لها

قلت :

.

. "

أشعر وكأن عدوى الخوف والحذر انتقلت منه للحرية نفسها حتى أصبحت تجهل الحب ، صرح لها بأنه يحب ، هذا الشعور شبه الممنوع التصريح به أو المخجل لمن يعشق الإنسان ويحب ؛ لذلك حذف ما بعد قلت .

لكن الحرية أيضاً قست في ردها عليه :

"مرت بلا رهبةٍ في الردود "

ثم يقول :

" كتبت لها في المساء مواقيت للسحر

أن علميني الصلاة على الماءِ "

وكما ورد في الحديث الشريف :" خير الصلاة بعد الصلاة المفروضة الصلاة في جوف الليل " ، ودعاء السحر مستجاب؛ لتعلمني الحرية كيف أظل مستقيماً أو محفوظاً من ذلك الماء الذي لا ينبغي أن يجرحه .

" ضمي ترابَ يدي إلى راحتيك

لكي تستعيدي تقاسيم وجهي

ومدي خطاك على الجمرِ

مدي خطاكِ

وقولي : سلام على سيدِ الباب

قولي : سلام على أول البرقِ

شقي عصاي

ولا تمنحيني وصاياك

لا تقرئي حكمة العاشقين

ولا تعبري من طريق الغوايةِ

حتى نحيك معا كيف نجثو على الصرح

من غير أن نغرق الفلك

لا فلك تجري إلى منتهاها

ولا لون للبحر يشبه لون السماء

ولا الدرب يمتد في البعيد "

ما زال الحوار والسرد القصصي قائماً في هذه القصيدة بين الشاعر والحرية التي زارته في لحظة تجلي القصيدة .

" ضمي تراب يدي إلى راحتيك "

التراب الذي جاء على يديه من تلك المحاذير والقيود التي تحد من إبداعه وتعيق حضور الشعر " لكي تستعيدي تقاسيم وجهي " ، لكي تستعيديني كما ولدت حراً طليقاً .

" ومدي خطاك على الجمر " ، يطالبها أن تكون جرئية وتمشي على الجمر الذي قد يحرقها ، ذلك الجمر هو المحاذير والقيود أياً كانت .

"وقولي : سلام على سيد الباب " ، من سيد الباب ، أهو الشاعر ، أم من صنع هذه القيود ؟....، قد يكون أحدهما أو كلاهما .

" قولي : سلام على أول البرق "

أول بادرة للتحرر من القيود وسلوك مسلك الحرية .

" شقي عصاي " ، حررني من قيودي التي أصبحت جزءاً مني وصرنا معاً كالعصا ، ولكن ها هو أحمد قران يجعلنا مرة أخرى بين شد وجذب مع قصيدته كما هو بين شد وجذب في حواره مع الحرية .

مرة أخرى :

" ولا تمنحيني وصاياك

لا تقرئي حكمة العاشقين

ولا تعبري من طريق الغوايةِ

حتى نحيكَ معا كيف نجثو على الصرح

من غير أن نغرق الفلك ...إلخ "

كوني حذرة أيتها الحرية ولا تعبري من طريق الغواية حتى نسلك معا مسلكاً في الإبداع والشعر والأدب نجيد حياكته أو إخفائه ، يصل بنا إلى مبتغانا ونصل إلى بر الأمان ، بل نجثو على الصرح ، تأمل معي إلى كلمة " نجثو " تشعرني بصعوبة بالغة في هذا الطريق الذي سلكه المبدع مع الحرية وربما اعتراه شيء من الذل ، فهو حر حرية منضبطة وعقلانية ، نجثو على الصرح ، استحضر هنا صرح ملكة سبأ الذي جاء به عفريت من الجن إلى سيدنا سليمان –عليه السلام- " صرح ممرد من قوارير " ، والقارورة سريعة الخدش والكسر والتأثر ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :" رفقاً بالقوارير" أي النساء .

أشعر بأن الشاعر يقول : سأصل إلى عرش الإبداع في الشعر ولكني لن أسلم مع الحرية ، مع ذلك يقول : لابد نكون حذرين ولا نغرق الفلك ، تلك المصطلحات أو المفاهيم أو التقاليد ....إلخ ؛ لأنها أشياء ستبقى ما بقت دنيا الناس هذه ، فهذه دنيا ليست آخرة :

" و لا لون للبحر يشبه لون السماء

ولا الدرب يمتد في البعد "

على الأقل حسب تصور الشاعر أو في حياته .

" لا النخلُ يسقط من مرتقاه

ولا الخيلُ تركض فوق الصراط المقدس

لا أنتِ ...أنتِ ...

ولا كف يشبه كفيكِ

ضدان ...شحٌ وجود ."

هذه المفاهيم أو المصطلحات لن تسقط أو تنتهي كما أن النخل لا يسقط من مرتقاه ، وأيضاً خيل الحرية لا يمكنه الركض فوق الصراط المقدس .

هذه المفاهيم سواء المقدسة عقلاً ونقلاً أو التي من صنع الإنسان حتى وصلت لدرجة القدسية ولم ينزل الله بها سلطان ، لا يمكن لخيل الحرية أن تركض على هذا الصراط المقدس .

 

شاعرنا أحمد قران يضبط جنونه أو جنون القصيدة بضابط العقل ؛ فينشد حرية منضبطة وعقلانية .

" لا أنتِ...أنتِ...

ولا كف يشبه كفيك

ضدان ... شحٌ وجود ."

هذا يؤكد ما قلته آنفاً .

ثم يقول :

" أرى برزخاً قد تلاشى ...إلخ "

لا زال يحلم بأن تسقط تلك القيود والمحاذير خاصة تلك التي من صنع الإنسان وما أنزل الله –تعالى – بها من سلطان .

" إلى مسقط الضوء " ، حيث الحرية .

ثم يختم قصيدته بما بدأ به :

" على بعد حرفين

كنا نقاسم أجسادنا لذةَ الجوعِ

نأوي إلى الكهف حتى نرى بعضنا جهرةً

ثم نتلو التعاويذ

نتلو التعاويذ

كنا نلامس أشياءنا دون وعي

وكنا نشاطر أرواحنا بعض ما تشتهي

حيث ...

لا دفتر أو شهود ."

الجوع إلى الحرية ، إلى الانطلاق في فضاء القصيدة والشعر والخيال والإبداع ، كان لقاءاً سرياً بين شاعرنا والحرية في الكهف ، وهو يؤكد كل ما قاله في القصيد ة من بدايتها :

" حيث...

لا دفتر أو شهود ."

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص