احمد الفلاحي شاعر واكاديمي يمني امتهن الغربة وعاشها حتى صارت اعز اصدقائه عاش كثيرا في العراق والان في المغرب العربي لكن ماتزال اليمن هي الرئة التي يتنفس بها ويكتب لها شعره في هذا الحوار حاولنا مناقشة بعض القضايا الشعرية والابداعية مع هذا الشاعر الجميل وخرجنا بهذه الحصيلة الرائعة من الإجابات:
حاوره عز الدين العامري
أكاد اجزم أني ذلك المشروع الذي لم ولن يكتمل الا بالموت، هذا المشروع "الانسان" الخالي من أية شوائب والتي تجعل النموذج الكوني خائر القوى.
لربما استطيع القول اني اخطو حثيثاً نحو تحقيق الانسلاخ عن الديمومة البيولوجية المحركة لهذا الكائن المسمى مجازاً انسان.
"وتسألني من أنت
انا قلق يحاصره الثبات
وجعي ابتداء العمر
جرج في الفؤاد
وأنا التضاد".
الشعر دهشة الارتواء في ظمأ الحقيقة، تقف فيه عارياً وبكامل جنونك وحريتك ،تستعيد فيه لحظة البدء، تتساءل كما لو أنك طفل أمام فضاء كامل المتناقضات، تخمش ما استطعت من حلوى.
الشعر نخلقه بالومض ليترك الوجدان في خلخلة نزقة، يتربص بك كحارسٍ ذهني لا يهمد، وهو الكائن المنبثق من اختلاجات لا نعرف كنهها يود في لحظة برق خاطفة ويومض ليشعل مصباحاً لن يجف زيته.
ولماذا الشعر اذن؟
الشعر ليس قالباً او شكلاً انما فيض يتسلل الى دواخلنا لا تمنعه الامكنة والازمنة، يبتعد عن التقوقع كلما أهديته انسانيتك، ويشرد عنك كلما أسقيته الآسن من شغافك.
الشعر وحده القادر على النفاذ الى دهاليز العتمة ويضيء، والى مخيلة الوجودية في كل مراحل التطور الانساني، يستطيع التأقلم مع كل متغيرات الصيرورة برؤيا تعبر ميتافيزيقا الابداع، يحقق التوازن في عالم لا امام فيه الا العلم.
قد ابدو متناقضاً نوعا ما لأني سبق وأن تساءلت باستهجان عن جدوى الشعر مقابل العلم، لكن في حقيقة الامر فإن الفلاحي الذي يعمل في مجال العلم تحدث بذلك في سياق الحديث عن نهضة الشعوب وكان منحازا لرأي افلاطون بإخراج الشعراء من جمهوريته. اما الفلاحي الذي ينحاز الى الادب والفن والشعر فيرى ان الشعر وسيط توازن بين العلم بعقلانيته وماديته وبين الروح.
ان عملية التوازن مطلوبة لقتل الصقيع بين ما يقدمه العلم وما يقدمه الفن، وتتم هذه العملية وفق فلسفة الهم الانساني المشترك، فاذا اعتبرنا العلم يرقى بالإنسان ليحيا حياة رغيدة --بعيدا عن الانحرافات التي تستخدم العلم لانهاك العالم بالحروب- فان الاظب والفن هما الرديف لتناغم الروح مع العقل والجسد بلغة صمت تفوق الكلام.
أما بالنسبة لسؤالك من هو الشاعر؟فأنا ارى ان كل انسان هو شاعر قائم بذاته انما لكلٍ اسلوبه في التعبير والتلقي بأحاسيس ورؤى تختلف، وأن درجة الحساسية والرهافة وتقنيات التعبير والتصوير هي من تحدد قدرة الشخص على التأثير .
الشاعر ليست مهنة او صفة يمكن ان يطلقها الشخص على نفسه، ومن يفعل ذلك لك ان تشك في شعريته فهو موهبة تمنح وتكتشف من خلال الاخر وليست شهادة اكاديمية تحصل بالمثابرة نتيجة تخطيط ، الشعر لوعة مؤرقة تصاحب الانسان وتظهر علاماتها كما يظهر العشق على العاشق.
أما بالنسبة ماذا أضاف لي الشعر فهذا السؤال طرحته على نفسي وهو ما جعلني اتوقف عن الكتابة من 2006-2012 وكل ما فعلته خلال تلك الفترة هو الانغماس بالعمل الاكاديمي والبحثي والتدريس في الجامعة، وعملت بعض الدراسات النقدية عن بعض الاسماء اليمنية مثل عبدالحكيم الفقيه تحت عنوان التبوشعرية والفنتازيا في شعر عبدالحكيم الفقيه نشرت بداية العمل في جريدة الجمهورية واتممته لاحقاً وعن سوسن العريقي وعن نص هذا خبر للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي ولم انشرها.
كنت وقتها افكر بجدية في أن الشعر لا يقدم شيء للبشرية ولا لي لكن بعدها وصلت الى رؤيا انه ليس مطلوباً من الشعر ان يقدم للشاعر غير تقديم رؤية الشاعر الى المتلقي وتجربته وان كانت متواضعة.
ولو توقعنا من الشعر ان يقدم اكثر في هذا العصر سنكون مبالغين اكثر من اللازم لأن الشعر الان بات جمهوره اقل وتأثيره ايضا.
اما ماذا قدمته انا للشعر فحصيلة الامر عملية تبادلية تماما
الشعر لم يكن هدفاً هاماً لي ان اكتب لأتنفس لأعبر عن رؤاي
ان ألتحم مع متناقضات الكون والانسان اكتب فقط لأرى بأن العالم مازال يعيش رغم هيمنة الالة.
كما هو ليس مطلوبا ان يقدم الشعر للشاعر الا التوازن واحساسه بالكينونة كذلك ليس مطلوبا من الشاعر ان يقدم للشعر سوى قدرته على الحراك الدينمائي لتحرك الشعر من طور الى طور في حركة جماعية تشكل رؤية جمعية لمجتمع ما خلال فترة ما ومساعدة الشعر على الانزياح من وضع الى اخر.
الشعر الان اصبح لغة كونية وان تعددت اللغات لكنه عابر للحدود، هذا الحراك يتوحد بأرجاء المعمورة ليشكل نموذجاً لحظيا نرسم من خلاله شكل الكتابة الجديدة.
العراق قضيت فيه فترة طويلة عايشت مع العراقيين حصارهم وحربهم وطائفيتهم، الآم العراق نازفة بجرحي وان ضمدته السنون خلال عودتي الى اليمن الا انه بقى نازف الشريان ..كل ذلك له بصمته الخاصة على كتابتي خلال فترة تواجدي هناك مجموعة أمكنة هي كاملة في بغداد عن كل تفاصيل الامكنة والآهات التي داهمتنا، من الطبيعي ان يتأثر اي شخص في محيطه الجديد، واذا كان المحيط هو العراق بكل ثقله الحضاري وآلامه بالطبع التأثير اعلى على ابنائه وعلى القاطن فيه، ولعلنا نرى انعكاس ذلك على كتابة الشعراء هناك ناهيك عن المتغيرات الجديدة كل يوم.
الفترة الخاصة بالمغرب أتت بعد انقطاع دام اكثر من ست سنوات عن الكتابة، الاستقرار في هذا البلد وجمالية الطبيعة فيه نقيض تماما للعراق واليمن اللذان جعلا للكتابة طعم البارود ولون الدم.
بطبيعة الحال فاني في المغرب عدت الى الكتابة وبزخم عال خاصة الفترة الاخيرة، الحراك الثقافي هنا متجدد لا اتحدث عما يبرز في السطح اتحدث عن الهامش والذي ينم عن وعي حقيقي وقدرة على بلورة الرؤى ضمن تقنيات مائزة ولا بد لذلك ان ينعكس على رؤى المتتبع بعمق لتلك الرؤى.
في المغرب لدى ما يقارب الثلاث مجموعات نشرت احدها وهي ثلاث مرات قبل الاكل، ومجموعتان ما تمنحه لي انثى البحر والتي افكر بتغير عنوانها ومجموعة مازالت مبعثرة.
وان كانت الكتابة هي هذا الوعي الداخلي عن العوالم والملكوت فإنها ستكون رفضاً لكل ما يتناقض مع انسنة الانسان.
اكتب للحب للوطن للكائنات الجميلة، للعالم، للسلم والسلام، للجنون، اكتب عن كل ما يخطر ببالي بلحظة شرود نبيل.
وكتابة الشعر يجب ان تكون محملة بفلسفة حول ما يدور في هذه البسيطة من متغيرات وانفعالات داخل الانسان ومع محيطه.
الشعر لغة هامسة، صورة آسرة لمخيلة العبق في متاهات الرؤية، يمكن ان نجعله يتشقق كينابيع ليروي ظمأ العطشى.
لنكتب كلما شعرنا اننا محاصرون بهمسنا الداخلي لنعبر جسر اينشتاين في كينونة الفجر.
اكتب لنفسي كمتلقي وللأخر كعنصر في نظام متكامل بفعل التحدي والاستجابة.
لم اجرب القصة او الرواية لأني في حقيقة الامر اتهيب من التجربة بسبب ملالتي المتواصلة من الكتابة وبسبب عدم رغبتي في الخوض في شخصنة العوالم العائمة في مخيلتي.
عملت على الكتابة النقدية والتحليلية سواء بالقراءة الذوقية "الانطباعية" وبالمنهجية وهناك عدة دراسات لم انهها عن بعض الكتابات اهمها عن "هندسة الحداثة عند هاني الصلوي" حول الحداثة اللامتناهية الشبكية، ودراسة "تلازمية المكان في الظلال تلعب الغميضى" واعمل على دراسات اسنادية النص الشعري لمؤلف باستخدام الاسلوبية وهي عدة دراسات نشرت احدها في الحياة الثقافية تونس وفي تركيا وقدمت احدهاةالى مجلة نزوى العمانية.
في الداخل لاني غادرت في نهاية التسعينات وانقطعت عن النشر في الصحف والمجلات اليمنية ومن بعد 2006 انقطعت عن النشر والكتابة، وحتى الان لا اتعمد النشر يسعفني بعض الاصدقاء بانتقاء نصوصا لي لتنشر لي على مواقع الكترونية ومجلات وهذا فضل اشكره لهم خاصة بالمواقع اليمنية، الذي اتعمد نشره هو بعض الدراسات المحكمة لانها ترتبط بعملي البحثي.
بالطبع يحز في نفسي ان اكون غائباً في وطني ومن يذكرني هم جيل التسعينات الذين كنا ننشر معا ونتشارك الهم اذ كان لتلك الحقبة نكهة خاصة وما قدمته "الثقافية" تلك الصحيفة التي انتجت حراكاً مهما خلال عصرها الذهبي.
في اللقاءات الجانبية ارتجل دوما لكن ان اكتبها فورا يعني ذلك قبساً جديدا اقبض عليه.
" حروف العلة الثلاثة
اختارتها اللغة بعناية تامة
انها وبحق حروف
اخترعت لأجل وطن يتألم
**
البلاد البعيدة
البعيدة جدا
يغادرها الحمام
الحمام الوحيد
الوحيد جدا
لا يأنس لصوت القنابل
**
ماذا لو جربنا الحب
نحب بعضنا
كما يفعل الاطفال مع حلواهم تماما
وحين نجوع
نأكل اصابعنا
**
ابي كان معلماً للتاريخ
فأقتفى اثر الغراب
ووطني كان معلما للصبر
فكنا اول القتلى
المشهد الشعري اليمني ملفت للنظر وبشكل عام أكاد اجزم انه مائز جدا وله لغة عذبة ويتمتع برؤية ناضجة وهناك اسماء جديدة وضعت لأسمها مكانا في هذا المشهد رغم حداثتها ولا اخفيك انني فخور بتلك التجارب الجديدة التي تجاوزت الكثير من تجاربنا نحن القدامى ناهيك عن الظروف التي اسهمت في تعميق التجارب وفسحة النشر الان وهي فرص لم تسنح للأجيال القديمة والتي تعاني من امية تقنية في استخدام الشبكة العنكبوتية في نشر اسهاماتها.
وبالقدر الذي اتتبعه لمجموعة من الاسماء الجديدة اجد دهشة حقيقية بالكتابة واستعمال اليومي بلغة شعرية حانية.
هناك اسماء اتابعها باستمرار ومنها قريب الى نفسي من اجيال مختلفة ابتداء من احمد العواضي واحمد الزارعي وعبدالحكيم الفقيه و....محمد الشيباني ،نبيل سبيع، محمداللوزي، الى قيس عبد المغني والتركي وجلال الاحمدي وسوسن العريقي وميسون الارياني واسماء كثيرة لا يسمح المجال بذكرها وهم يعرفون اني احب ما يكتبون ماجد عاطف ومحمد يحى عبدالمغني والجرادي ومجلي و... اما من اقرأه بعمق وجنون هو هاني الصلوي فطريقته تختلف كثيرا عن الاخرين.
لا اخفيك اننا عشنا لحظة انتشاء وخاصة كل الذين تعرضوا في عهد صالح من اقصاء وفصل من الوظائف عدت من العراق لأجدني مفصولا من وظيفتي في التربية بتعز، ولمدة عامين وانا ابحث عن عمل وادرس ببعض الجامعات الخاصة بنظام الساعات، لم يكن الامر يعنيني فقط الامر يشمل فئة كبيرة من الناسة وخاصة المعارضين لنظام صالح، ويخص دولة بأكملها لم تبنى فيها مؤسسات عسكرية وطنية ولا دولة مؤسسات الدولة كانت مربوطة بشخصه وبحزبه يتقاسمونها.
اجهضت الثورة بتدخل خليجي لحماية صالح واتباعه وتفاقم الامر الى ما وصل اليه الان.
ان اليمن تمر الان بأسوأ حالاتها ويتلخص الوضع الحالي بتصارع قوى اقليمية على ارض اليمن يساعدها في ذلك جماعة المصالح والمرتزقة داخل اليمن، والضحية الذي يدفع الثمن هو المواطن اليمني.
وللخروج من هذا المستنقع يجب على اطراف الصراع الجلوس الى طاولة الحوار وبشكل صادق تاركين المصالح الضيقة وتغليب مصلحة الوطن، كما ان على المليشيات العودة الى جحورها وتشكيل حكومة انقاذ وطني قائمة على الكفاءات وبكافة الصلاحيات وخروج علي صالح من اليمن واسرته لان ببقائه لن ترى اليمن خيرا.
نبذة مختصرة عن الشاعر الفلاحي :
احمد الفلاحي
استاذ جامعي واكاديمي
عضو اتحاد الادباء والكتاب اليمنيين
عضو الجمعية للحاسبات والمعلوماتية بغداد
عضو هيئة تدريس في جامعة اب