لم يكن بلبل اليمن الغريد وفنانها الكبير علي بن علي الآنسي مجرد عبقريٍّ في الغناء والعزف والتلحين، بل كان سراً من أسرار ثورة ٢٦ سبتمبر الخالدة، بوصفه كان ضابطاً في تنظيم الضباط الأحرار. وبعد قيام الثورة ضد الكهنوت العنصري الإمامي، حمل على عاتقه مهمة بلورة وجدان اليمن الجديد وهندسة الفن الجمهوري.
كان "المرحوم" كما تحب الذاكرة الشعبية أن تصفه، ظاهرة فنية ووطنية نادرة التكرار، وكان أباً لجيل كاملٍ من الفنانين يقاربونه سنّاً، ويحملون له عرفاناً كبيراً لأنه أول من أخذ بأيديهم إلى منصة الفن وأرشدهم إلى التخصص في إحياء لونٍ معينٍ من ألوان الفن اليمني الغزير. لذا لم تشهد فترة علي بن علي الآنسي ذلك التكرار والتشابه بين الفنانين الذي نشهده في اليمن اليوم.
يذكر الفنان الكبير أيوب طارش عبسي في إحدى مقابلاته أن الآنسي هو أول من أخذ بيده إلى عالم الفن، وأول من اكتشف موهبته الكامنة، ورأينا كيف أصبح أيوب أهزوجة وطنية وعاطفية تملأ أرجاء اليمن وتفيض إلى أرجاء الجزيرة.
لقد شكل الرعيل الذي تتلمذ على يد المناضل الجمهوري علي الآنسي، جيلاً فنياً متكامل الأداء، واضح الهدف، متعدد الجمهور، يمتلك ملكات في اختيار الكلمات، وموهبة فذة في ابتكار الألحان. وما يزال فنانو اليوم يعتاشون على ما أنتجه ذلك الرعيل من فنٍ غزيرٍ ملأ أرجاء اليمن بالمحبة والذوق والإقبال على الحياة.
تنقل الآنسي (1933-1981)، في بواكير رحلته الفنية بين عدن وتعز وتخصص إلى حد ما، في إحياء فنون المناطق الوسطى، إب ووصابين والضالع وعتمة، وتجاوزت شهرته النطاق المحلي إلى النطاق العربي الواسع، لتسجل له أغانٍ بآلات موسيقية في كلٍ من تونس والكويت. وقد ظلّت محافظات الشمال تردد لسنوات، النشيد الجمهوري الذي لحنّه المرحوم علي بن علي الآنسي.
لا يكفي أن يكون الفنان ذا صوتٍ عذبٍ أو أن يمتلك موهبة العزف والتلحين؛ إذ أن الرؤية الوطنية الصلبة المشغوفة بالحب، هي التي تجعل من الفنان علَماً تتجاوز قامته عنان السحاب، وتطير شهرته إلى حيثما وصلت أشعة الشمس. وبالتالي فإن على فناني اليوم أن يدرسوا جيداً تجربة هذا الفنان المُلهم والمُلهِم، الذي سبر وجدان هذا الشعب واستلهم أشواقه وآلامه، ثم أصبح بعد ذلك بُلبله الغرّيد الذي يسجع سمفونيات خالدة أبد الدهر.
وكعادة أيّ مشروعٍ فنيٍ عظيم، ثمة ثنائية بالغة التطابق، بين الكلمة والصوت، بين الشاعر والفنان، بين مطهر بن علي الإرياني وعلي بن علي الآنسي، بين عبدالله عبدالوهاب نعمان وأيوب طارش عبسي، بين حسين المحضار وأبوبكر سالم.
وعندما يجتمع علمان على هذا القدر من العلو كالإرياني والآنسي، فإن المحصلة تكون ولا ريب؛ فناً خالداً يربط الإنسان بالأرض والحب والبن، وبين الماضي الحميري العريق مع الواقع الجمهوري المتوثب.
وعلى غرار الآنسي، كان أستاذ الأساتذة الفنان الكبير محمد مرشد ناجي في عدن، قائما بذات المهمة وحاملا نفس الهم. فنانون عمالقة لم تصنعهم مسابقة في قناة، ولم تروّج لهم دائرة في حزب، بل صعدوا من ترائب التراب وأشواق الرباب، مجسّدين الامتداد السامق لأحمد فضل القمندان ومحمد فضل اللحجي وأحمد عبيد قعطبي ومحمد صالح العنتري وأحمد بن أحمد قاسم وغيرهم من آباء الفن اليماني الأصيل.
*الصورة بعدسة المبدع عبدالرحمن الغابري
إضافة تعليق