تواصل "أهل مصر" نشر حلقات (يوميات أسير مصري في اليمن)، ضمن سلسلة أجزاء تحكي كواليس حرب خاضها أبطال الجيش المصري من أجل الأشقاء في اليمن، وما دار خلالها مع ضباط وجنود القوات المسلحة وتكشف سعاد الديب في الجزء الثاني من لقاءها مع عبد السلام الدهشان أحد أبطال حرب اليمن أسرارا تنشر لأول مرة، حول المعاملة الوحشية التي عاملت بها القبائل الموالية للإمام البدر الجنود والضباط المصريين الذين وقعوا في الأسر؛ بما لا يتفق مع أدنى مبادئ معاملة الأسرى لا في الإسلام ولا في القانون الدولي.
كما يكشف "الدهشان" في مذكراته عن حجم الكراهية التي كانت تحملها صدور بعض العرب ضد مصر بالرغم من التضحيات الكبيرة التي قدمتها وقدمها كل جندي مصر من أجل تحرير اليمن وباقي الدول العربية من الرجعية ومن الاستعمار، ويحكي الدهشان في الجزء الثاني من مذكراته ما حدث له في الأيام التالية خلال فترة الأسر .. يقول الدهشان في شهادته أمام التاريخ :
*الخبز مخلوط بالرمال والماء القذر .. الصليب الأحمر ينقذ المصريين من أسر الشقيق اليمني
لم يكن هذا السجن بأرحم من سابقه ..نفس العذاب و الالم ..الخبز المخلوط بالرمال ، الماء القذر ، و عقب سيجارة من هنا و اخر من هناك ، وقليل من بقايا الشاى نلفه فى ورقة صغيرة نتمتع بها و كانها سيجارة حقيقية ، و اعواد من البصل أو قليل من اللوبيا الخضراء يتنازل عنها بعض الحراس ممن يشفقون علينا ,,و بدأ المرض الذى داهمنى قبل انتقالى الى سجن هذه المنطقة فى الزوال و بدأت استرد شيئا من قوتى ..حتى جاء الينا مندوب من الصليب الاحمر فى الشهر الرابع من عام 1965 و اعطانا بعض علب الطعام المحفوظ و بعض الملابس و كاننا فى احد الاعياد فرحا بتلك الغنيمة التى حصلنا عليها يوم رأينا بعض الخضروات و اللحم المحفوظ و نحن وسط هذا الجوع القارص هذا غير معقول ..من الملح الى اللحم مباشرة و هذه بسلة محفوظة ايضا و هذه علبة بها مخللات ، و ملابس داخلية و خارجية ..كل هذا ..انه كثير هكذا كان شعورنا فلم نكن مصدقين اننا حصلنا على هذه الاطعمة رغم تفاهتها حقيقة .. و لكن فى ظل ظرونا هذه كانت لا تضاهى و كنا ايضا فى غاية الفرح بالملابس التى جاءت مع الاطمعة ..لكل فرد منا بطانيتين و بعض الملابس الداخلية و قميص و بلوفر من الصوف ..تمتعنا عدة ايام بالطعام و الملابس مع اتخاذ التدابير اللازمة للتقتير لتكفينا أطول فترة ممكنة و لكن لم يدم ذلك طويلا ، فقد نفذ الطعام و عدنا الى الدقيق و الملح واخذ الجوع ينهش فى اجسادنا ثانية و لم اجد مفرا من بيع بعض الملابس التى اخذتها من الصليب الاحمر الى افراد الحرس ..ها هى البطانية الثقيلة ، تلتها الخفيفة ، و لكن الجوع و المرض و البرد القارص لم يرحمونى ، اذا فليذهب القميص ..فماذا ارتدى بعد ذلك ؟ و لكن "الجوع كافر" لم استطيع الصمود فقد هزلت و اصبحت لا استطيع الوقوف أو السير ، وكأننى هيكل من العظام يتحرك و يمشى متساندا ..فليذهب البلوفر ايضا ..فماذا تبقى لى ؟ ما انتعله بقدمى لقد جاء الدور عليه كنت اريد بذلك مقاومة المرض و الجوع انتظارا للحظة العودة التى نحلم بها جميعا ..و لم يعد هناك سوى الملابس الداخلية و لامفر من مواصلة الحياة ..فلتذهب هى ايضا ..ماذا افعل بعد ذلك ..البرد شديد و انا ارتجف و ليس لدى ما ابيعه ..اصبحت فى حالة سيئة عارى الجسد عدا قطعة من القماش ..حافى القدمين تدميها صخور ارضية السجن و القيود الحديدية بساقى .. و لم نسلم من الاهانات التى تتزايد من الحراس الاعداء .
*صمود وتحدي ورفض لعروض مغرية بالعمل والمال
ساءت حالة الاسرى الذين معى و انهارت نفسيتنا و نحن نعيش على امل واهى فى العودة و هذه الايام السوداء تكاد تمحو هذا الامل المتبقى لنا ..و الجوع و المرض و الاعصاب الثائرة يكادون ان يقضوا علينا ..و دبت الخلافات بيننا نحن الاسرى داخل السجن و كادت تؤدى بنا الى التقاتل فيما بيننا ..قاسيت كثيرا من هذه الخلافات خاصة الناجمة بينى و بين بعض الافراد الذين تحت قيادتى و لكن هذه الخلافات خاصة الناجمة بينى و بين بعض الافراد الذين تحت قيادتى و لكن هذه الخلافات التى وصلنا فى بعضها الى الالتجاء الى الحراس ضد بعضنا البعض لم تؤثر على مبدأنا بعدم التعاون أو افشاء اسرار عن تخصص و عمل اى منا حتى لا يحاول العدو اجباره على العمل معه ..فقد كان بيننا من كان يعمل على الرشاشات و مختلف الاسلحة و اجهزة التوجيه الفنية ، لم يكتشف العدو شيئا من ذلك رغم الخلافات التى كانت ستؤدى الى مذابح قاسية فيما بيننا نحن المصريين ، و التى كانت من نتاجها بث روح الحقد و الكراهية من بعضهم لى و التى ادت الى ىتغييرهم اقوالهم ضدى فيما تسبب فى محاكمتى بعد العودة . كانت ايام عصيبة و كان واجبا علينا تحملها رغم ما نحن عليه من جوع و الم و مرض و شعور بالعذاب و الاسر و الفراق بعيدا عن الوطن و الاهل ..و هذا الامل البعيد المنطفئة انواره فى سبيل العودة الى وطننا تحملت كل ذلك و لم اخضع يوما ما لطلب أو سؤال لاحد الحراس أو أفراد العدو .,.. حرصت على ان اكون أسيرا فقط حسب القانون حتى يتم تسليمى الى وطنى ...و رفضت التعامل معهم رغم العروض المغرية وصلت الى خمسين جنيها ذهبيا فى الشهر و الاقامة بينهم فيما بين اليمن و السعودية و لبنان ..رفضت ذلك لان شرف الوطن لا يباع و لا يقدر بمال ..ان احساسى الوطنى و ضميرى ملك لى وحدى امنحهم لوطنى فى المقام الاول و الاخير و ليس هناك مكان بينهم لاى اغراء من هؤلاء الاوغاد ..لم يستطعيوا اجبارى على العمل معهم فقد كانت نجوم السماء اقرب اليهم من نيل ما يشتهون ..و جاء الصحفيون و الامراء مرارا و تكرارا كل يعرض العمل و المال و التعاون معهم و الرضوخ لرغبات الامام ...و كانوا يعودون كما جاءوا بخفى حنين ..فها ظننتم ايها الاعداء المغفلون اننى قلت لكم فى اذاعتكم انى منضم اليكم حقيقة ؟؟؟ هل تريدوننى ان اصبح واحدا منكم ؟؟اتريدون ان اتبرأ من مصريتى ؟؟لا ليس هناك من يتنكر لمصريته ..و ليس هناك من يتنكر لناصره و جيشه و انا واحد منهم ..يا احمق من رأيت و حاربت لقد كانت كلمة لا معنى لها اعطانى الحق اياها قانون وطنى من اجل التخلص من موقف صعب كان فى حينه ..و قد كان تصرفا شخصيا و سليما منى حتى نفلت نحن المصريين من خناجركم المسمومة ..و قد نجونا اذا فماذا تريدون ..تنفيذ ما قلت ! انتم واهمون فأنا الان ارحب بالذبح و لا اتعاون فيما تبتغون ..فقد انقذت زملائى الذين معى و لكن انتقامكم الان سيكون منى وحدى ..
*أعصاب ثائرة وأمل العودة ترويه أغاني مصرية وأنباء عن لقاء عبد الناصر بالملك فيصل
توالت الايام تمر بنا و حالتنا تزداد سوءا و اصبحنا كما يقولون جلدا على عظم ..كنت اشعر باننى لم اعد آدميا مثل بقية الناس .كان جسدى يحمل من القذار و كأنى خارج لتوى من احدى البالوعات و لم اغتسل ..و الحشرات اللعينة تنال من جسدى و ترتع به و تمتص ما بقى لدى به من ماء ذلك ان كانت هناك بقية منه ..و شعر رأسى الذى حلقته يوما بشفرة من الصفيح سننتها على احدى الصخور أصبح اليوم و كأنى فتاة تسدل ضفيرتها على كتفيها و يا لقذارته .. مشاكل عديدة يومية كنت اعيشها تخلقها الاعصاب الثائرة التى لا تتحمل كلمة من احدنا لاخر و الحراس يزيدونها بايذائهم الدنىء لنا ..و القبائل و زعماؤها من كل مكان من اليمن تجىء و تذهب لترى هذا الضابط الاسير ابن اخت المشير ..على حد قولهم ..و كانوا عندما يروننى يصيحون و يزآرون مطالبين بقتلى انتقاما من الجيش المصرى فى شخصى ..و البعض منهم كان يد يده أو رجله لينالنى منه بعض الاذى . كان افراد الحرس الذين يتولون حراستنا يحملون بعض الراديوهات الصغيرة يستمعون اليها اثناء نوبات حراستهم لنا ليلا ..كنا نلصق اذاننا بالحائط لسماع صوت مصرى من اذاعتنا لترقب اية انباء أو لسماع احدى الاغنيات المصرية لتسرى عنا و عن نفوسنا المتعبة فقد كنا نريد الاستماع الى اى شىء تبدو من رئته انه من وطننا الحبيب ..و انسى تلك اللحظات التى كنت اجلس استرق السمع فيها لاحدى اغنياتنا و الدموع تفيض من عينى تذكرنى بالاهل و الاحباب و الاصدقاء و تكثر من تساؤلى عنهم .. ماذا يعملون الان ؟ كيف تصلهم اخبارى ؟ ماذا يعلمون عنى حتى الان ؟ بت كل يوم و احلامى توجدنى بينهم و هم يستقبلوننى غير مصدقين باننى ما زلت حيا ,,و اعيش حتى هذه اللحظة على امل تحقيق هذا الحلم و ان أطأ بقدمى منزلنا الحبيب ببورسعيد فى وطننا الكبير مصر ...
فوجئنا بنبأ بث فينا روح الامل و العودة ..عشنا فيه و كأننا فى طريقنا الى وطننا ..فقد علمنا بأن هناك مقابلة سوف تتم بين الرئيس جمال عبد الناصر و الملك فيصل من اجل حل مشكلة اليمن .. اذا فلابد انه سيكون هناك اتفاق بتسليم الاسرى و العودة الى الوطن ..هل سنعود حقا ؟ و اخذنا نرقص فرحا و نهنىء بعضنا البعض و اخذنا فى ترقب انباء تلك المقابلة باستراق السمع من راديوهات الحراس ، الانباء تقول ان فيصل يريد لقاء ناصر فى عرض البحر ..كنا فى شوق حار لا يوصف انتظارا لاتمام هذا اللقاء و نخاف الا يتحقق فتضيع علينا فرصة الحياة و العودة للوطن ..
و اخيرا تمت المقابلة " بجدة " بعد ذهاب الرئيس عبد الناصر لها لمقابلة فيصل .. و بقيت مشكلة اخرى فكيف سنعرف بنتائج البيان المشترك بينهما و حياتنا معلقة به ؟؟فلابد من ساعة بكل دقة حتى نعرف مصيرنا ..تطلب الامر الحصول على راديو لسماع هذا البيان ..فقمنا بايقناع احد الحراس بأننا نستطيع اصلاح احد الراديوهات التى بها خلل و جاؤا به للتصليح و حجزناه لدينا حتى ساعة اذاعة البيان حيث استمعنا اليه فى ترقب شديد و نحن مكتومى الانفاس ..فهذا البيان هو وصل حياتنا و الحكم علينا فى البقاء او النهاية المؤلمة ..استمعنا الى البيان و لم يكن هناك ما يشير الى امر تسليم الاسرى كنص صريح على ذلك ..و لكن مواده كان بين سطورها ما يوحى بالاتفاق على ذلك ..و كانت هناك اتفاقات غامضة بالبيان ،، اخذ كل منا فى تفسيرها حسب فهمه لها ، و لكن لم يصل احد منا الى رأى يتفق مع الاخر عليه وسط هذه الاعصاب القلقة و الفرحة بهذا اللقاء الذى نتجت عنه اتفاقية "جدة" و لكن شعور خفيىكان يجيش بنفسى بانه لن ينتهى منتصف هذا الشهر التاسع من عام 1965 الا و قد تركنا هذا السجن البغيض فى طريقنا الى بلادنا .,قد كان ما توقع ..
*نبأ العودة للوطن والانتقال من مقر الصليب الأحمر للمطار تمهيدا للسفر لمصر
فى اليوم الثالث عشر من هذا الشهر فوجئت بأحد الحراس و هو يخطرنا بالاستعداد للرحيل من هذا السجن الى مقر الامام و مقر الصليب الاحمر تمهيدا لترحيلنا الى وطننا ...كانت فرحة لا تعقل أو توصف و لكن الحظ السىء كان يلازمنى فى هذا الوقت حيث كنت اعانى من احد ادوار الملاريا التى هاجمتنى خلال هذه الايام ..جاءنى المرض و انا فى طريق العودة الى بلادى ,,و تمنيت من الله بعض القوة و القدرة على السير حتى لا احرم من هذه اللحظات التى كنت انتظرها من زمن بعيد ..و جاء الصباح و نحن لم نذق طعم النوم من الفرحة طوال الليل و التمنيات الطيبة فيما بيننا بالنجاة و اخذنا نتخيل عودتنا للوطن رغم قسوة و عذاب الطريق الذى سنعود منه حتى نصل الى مقر الصليب الاحمر ..و لكن شعورنا جميعا كان بضرورة التحمل لمشاق الطريق .فاننا عائدون الى وطننا ...شعورنا بذلك كان يدفعنا حثيثا الى السير لنرامى هناك بين احضان الوطن و الاهل وجدت نفسى قادرا على السير بطيئا رغم ما بى من تعب و آلام المرض بعد هذه السلسلة المضنية من الجوع و العذاب و المرض ..رغم الجوع الا ان احساس الشبع يغمرنا لشعورنا بالفرح لقرب عودتنا الى الوطن مر اليوم الاول و جاء الثانى و نحن فى طريقنا الى الصليب الاحمر و قد دب النشاط ة القوة و اختفى المرض فجأة و احسست بقوة ندفعنى للامام ..تقدمت الجميع حتى الحراس اليمنيين و كلى قوة و حماس للوصول الى وطنى و كأنى لم اكن مريضا و فى الصباح الباكر وصل مندوب من سفارتنا بجدة و اخبرنا بان هناك طائرة مصرية وصلت من القاهرة و هى فى انتظارنا بالمطار لتحملنا الى مصر و بسرعة البرق اعددنا انفسنا و توجهنا الى الطائرة لنلتقى بأعز من تحملنا فى سبيلهم كل ما فات ...و اقلعت بنا الطائرة متجهة الى ارض مصر الغالية ..كنا متلهفين للوصول و فى شوق جارف لاهلينا ..ها هى القاهرة ارض الوطن ..حمد للك يا رب ..فتح باب الطائرة و اتجهت اليه لاستنشق هواء مصر العذب ليشعرنى باننى فى وطنى الذى حرمت منه طويلا ..هبطت سلم الطائرة و استقبلنى مجموعة من الضباط المصريين يتوسطهم احد اللواءات مهنئين بسلامة الوصول ...و ادخلونا الى احدى الصالات و وزعت علينا بعض الاوراق للحصول منا على بعض الاقوال و المعلومات المبدئية كاجراء روتينى للعائد من الاسر ..ثم انتقلنا بالعربات الى المستشفى العسكرى بألماظة حيث صدرت لنا الاوامر بعدم الاتصال بأى فرد من الخارج أو الاهل الا بعد الانتهاء من فترة الحجر الصحى .
إضافة تعليق