تأكل الحرب في اليمن الأبرياء، والمغرر بهم، والتعساء في حياتهم، الباحثين عن " لقمة عيش" من فم البندقية، الذين لا يجدون حلا في البقاء، إلا بمواجهة الموت، حين تزأر بطونهم جوعًا، وصدى أوجاع أطفالهم أقوى من المدفعية، ومعاناة نسائهم في البعد -الغير مرغوب- تتصاعد نارًا يتجاوز ألسنة دخان الانفجارات.
في اليمن، يصبح الموت ثمن بطن تئن من الجوع، وعلى الأطفال أن يصبحوا أيتامًا إذا ما أرادوا الحليب، وتتحول النساء إلى أرامل، إذا أردن حياة كريمة، كل هذا، والعالم يدير ظهره لمئات القصص الانسانية التي خلفتها الحرب هناك.
يتهافت تجار الموت على حالات تتكوم ألما، يمنحونهم البندقية قبل الخبز، والكفن قبل اللحاف؛ فيغادر الانسان المسالم إلى ساحة المعركة وقد تحول إلى (كيس دماء) عليه أن يصب نفسه في أي مكان وتحت أي سماء، كي يعول أطفاله ولو فقدوه.
تجار الموت، من داخل قصورهم المتطاولة بنيانًا، وموائدهم العامرة بالملذات، تحت رنين مجوهرات نسائهم، ومن كوم ثياب أبنائهم المترفون بالأرصدة البنكية، والسيارات الفارهة، يستخدمون البشر "المعدمين" كحطب لمعارك يمكنهم إيقافها، كي تستمر ثرواتهم بالازدياد أيا كانت العواقب.
خفافيش الظلام، لا يبصرون إلا مصالحهم، ولو تحالفوا مع الشيطان، فطالما هناك فقراء يدفعون ثمن حماقاتهم، لن يوقفوا حربًا ولن يهتفوا باسم السلام، فدمائهم وذويهم محفوظة، والفتات الذي يمنحونه للناس البسطاء كي يذودوا عنهم متوفر.
مطلع الأسبوع، وبالتزامن مع المعارك المشتعلة في محافظة أبين (جنوبي اليمن) غادر محمد حسن المسعودي -يعمل جنديا في عدن- أسرته المثخنة بالجوع، وهو لا يملك سوى أن يتحول إلى "رصاصة" يطلقها العابثون بالإنسانية؛ ودع أهله وأطفاله، ناولته زوجته نصف ورقة اجتزتها من دفتر أحد أطفاله وكتبت عليها كل أحلامها في زمن "القتلة"..
محمد حسن قصة من آلاف القصص الأليمة التي خلفتها الحرب في اليمن
محمد حسن قصة من آلاف القصص الأليمة التي خلفتها الحرب في اليمن
سجلت على تلك الورقة طلباتها البسيطة التي لا يصل سعرها في السوق إلى خمسة ألف ريال، وهي تناوله .. لم تكن تعلم أن تلك السطور.. آخر ما ستطلبه من زوجها، طفلته الرضيع التي كانت تنتظر حفاظتها لن تنعم بحنان والدها بعد الآن.
(بصل- حليب- دقيق- زبادي – وحفاظات رقم 4) طوى الجندي الورقة في جيبه الصغير وغادر منزله.
وفي خضم معارك الأشباح، وبينما يتمترس محمد المسعودي وراء الأمل، لا يدري من أين يأتي الموت، اصطاده (قاتل) آخر بطلقة نارية.. (القاتل) أيضًا ودع أسرته، ومن يدري عندما يسقط بطلقة مماثلة أي طلبات سيجدونها في جيبه، وأي أمنيات كانت تراوده.
الأسرة تنتظر الزبادي .. الحليب .. الدقيق .. والبصل، لا يعلمون أن طلباتهم التي تحمل اللون "الأبيض" جميعها، وحتى حفاظة الطفل قد تلونت بـ " الأحمر" وأنهم لم يعودوا بحاجة إلى "البصل" ليذرفوا دموعهم، فقد تكفل (قاتل) مأجور بذلك، ومن ورائه (قتلة) مترفون.
الأسرة تنتظر طلباتها، والأم تصبر أطفالها رويدًا رويدًا، سيعود قريبًا، هكذا تخبرهم، لكن والدهم بورقته البسيطة كان قد تحول إلى "تقرير" في مستشفى باصهيب بعدن مفاده:
"وصلت إلى مستشفى باصهيب العسكري/ محافظة عدن بتاريخ 23/6/2020م، جثة الشهيد المذكور أعلاه نتيجة إصابته بطلق ناري أدى إلى استشهاده وتم وضع جثمانه في المستشفى حتى يتم تسليمها إلى أسرته"
سيعود محمد حسن المسعودي أخيرًا إلى أسرته ومعه ورقة الطلبات كما هي، ولكن هذه المرة جثة هامدة يحمل لأسرته وأطفاله فاجعة ورصاصة في قلبه.
الساسة يتقاسمون الأموال، وطفل المسعودي بلا حفاظات وزوجته بلا زبادي.. هكذا يقتلون البسطاء في بلد تدخل الحرب فيها عامها السادس دون أفق لسلام قادم.