باجمال.. وزمن علي عبدالله صالح!

التقينا في مطار دمشق الدولي في ديسمبر 1989، عبدالقادر با جمال وأنا كاتب هذه السطور عبدالملك المخلافي، بعد توقيع اتفاق عدن الوحدوي في 30 نوفمبر بأيام قليلة كنت في طريقي إلى عدن على طيران "اليمدا" ومعي أسرتي وكان في طريقه إلى صنعاء على طيران "اليمنية" ومعه أسرته.

كان الموعد الأسبوعي لرحلتي شركتي الطيران في دولتي التشطير يوم الاثنين متقارباً وصولاً ومغادرة، وهكذا كان يتاح لليمنيين المتجهين أو القادمين من صنعاء وعدن اللقاء في مطار دمشق الدولي، تحدثنا طويلًا قبل إقلاع كل منا إلى وجهته، عكست الرحلتان الخيارين السياسيين والشخصين لكل واحد منا التي فرضتها مسيرة كل منا الشخصية والسياسية في عهد التشطير، ولكن أيضا خيارينا اللذان امتدا بعد ذلك وترسخا في دولة الوحدة.

كان با جمال الاشتراكي عضو اللجنة المركزية والوزير السابق في دولة الجنوب قد تعرض للسجن في أعقاب أحداث 13 يناير 86 الدامية لاتهامه من الطرف المنتصر بالانحياز إلى الرئيس علي ناصر محمد الطرف المهزوم، وعند خروجه من السجن إلى دمشق لم يجد الترحيب الذي كان يتوقعه، بل ربما وجد ما جعله يشعر بالألم بل وأكثر من ذلك كما أخبرني.

وكنت أنا في ذلك الوقت نازحا متنقلا بين دمشق وعدن وبعد خروجي من السجن في الشمال ومطاردتي فيه والأوضاع الصعبة التي واجهتها شخصيا لفترة طويلة بين عامي 1982 1984 وخاصة بعد انكشاف صفتي كأمين عام منتخب للتنظيم الناصري الذي كان سريا في بنيته وحركته، وذلك بسبب الخيانات وضمن ما واجه الناصريين عامة والقيادات الفاعلة خاصة، في سنوات الجمر التي امتدت منذ فشل حركة التغيير الثوري في 15 اكتوبر 1978 واعدام 21 من قادتها المدنيين والعسكريين وعلى رأسهم الشهيد عيسى محمد سيف الامين العام للناصري والشهيد سالم محمد حسين السقاف الامين العام المساعد، وحتى قيام دولة الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990.

 ذكرني باجمال وهو رجل قوي الذاكرة، عذب الحديث، لطيف المعشر، ذكي ولماح، بذلك اللقاء وبالمفارقة في موقف كلينا عندما جمعنا مقيل بعد اكثر من عقد من الزمان في بداية العشرية الاولى من القرن الواحد والعشرين وقد جرت في نهر الحياة السياسية اليمنية مياه كثيرة...

كان الرجل قد تولى عددا من المناصب في دولة الوحدة من عضو معين في اول مجلس للنواب إلى وزير التخطيط، ونائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية بعد حرب صيف 1994 الظالمة قبل ان يصبح رئيسا للوزراء كما اصبح قياديا في حزب المؤتمر الشعبي العام الذي اصبح فيما بعد امينا عاما له. 

بادرني با جمال في هذا اللقاء معاتبا بعد ان طلب مني الجلوس إلى جواره عما نشرته الوحدوي جريدة التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري (الذي كنت آنذاك أمينه العام ورئيس مجلس ادارة صحيفته) من هجوم عليه بسبب مقولته الشهيرة عن "أن هذا زمن علي عبدالله صالح"، وان "من لم يغتن في عهد علي عبدالله صالح لن يغتني ابدا". 

بعد العتاب ذكرني الرجل بلقائنا الذي اشرت اليه في مطار دمشق وقال لي "كنت متجها إلى صنعاء وانا لا اعرف وضعي فيها، ينتابني القلق والخوف من المجهول بعد ان سجنني رفاقي في عدن وتنكر لي من حُسبت عليه في دمشق واتهمني اني قدمت مندوبا للحزب في عدن اليه، ولم أكن املك شيئا، وفِي صنعاء وجدت من علي عبدالله صالح كل ترحيب وحب واصبحت ما أنا عليه وثم لا تريدني ان أقول هذا زمن علي عبدالله صالح"، وتابع متهكما "زمن من تريدني ان اقول"؟! 

دار بيننا حوار طويل وبا جمال رجل حوار بلا منازع والحوار معه مباراة ممتعة، الاكثر امتاعا فيها انك تدخل معه في مباراة هو مقتنع منذ البداية وقبل ان يبدأها انه الفائز فيها، ولكن خلاصة الحديث، اني قلت له من معيارك الشخصي من حقك ان تقول انه زمن علي عبدالله صالح وقد أشهدتني على وضعك يوم افترقت بِنَا الرحلة والخيارات في نهاية عام 1989 انا إلى عدن وانت إلى صنعاء وما اصبح وضعك بعد ذلك، اما من الناحية الوطنية فنحن على خلاف كبير حول هذا وبينت له سبب الخلاف وقلت ما كان يفترض ان تعكس جميلا شخصيا على موضوعية تقييم لوضع البلد والشعب وكان بإمكانك ان تحتفظ به لنفسك أو ان تقوله بينك وبين من اردت ان توصل له الرسالة، كما ان عليك ان تتفهم من الناحية الذاتية بالنسبة لنا كناصريين هجوم "الوحدوي "عليك فقد عانينا كثيرا من هذا الزمن الذي مدحته ولعل افتراق الطرق بيننا في مطار دمشق يكشف ذلك، وهو أمر بقي قائما حتى الان بالنسبة لنا رغم كل ما فرضته الوحدة من تعددية وتحسن نسبي عما كان قبلها، تفهم الرجل رغم بقاء عتبه من حدة الهجوم عليه وكثافته وبقي على اصراره المعتاد على تكرار وجهة نظره وتسويقها فهو لا يقبل الهزيمة أو ان يبدو خاطئا وهو ما اخذ جزءا كبيرا من مقيلنا انذاك الذي اصر فيه ايضا على ان ينتزع مني شهادات بعضها لا امتلكها عن كيف فجع باستقباله في دمشق (التي كنت اقيم فيها في تلك الفترة) من قبل رفاقه في "الزمرة" بعد خروجه من سجن "الطغمة" حسب المصطلحات التي كان يرددها واتهام "الزمرة" له انه جاء مندوبا للطغمة للحوار معهم، في الوقت الذي جاء هاربا وملتجئاً اليهم لا مندوبا لخصومهم وخصومه كما اشاعوا.

كان الرجل يتحدث بسخرية وتهكم عن رفاقه القدامى وهي سخرية يجيدها تماما عندما يريد.اتذكر هذا للترحم عليه بعد ان وصلني خبر وفاته.

 وهناك عشرات المواقف التي جمعتنا كثير منها تستحق ان تروى للتاريخ مواقف بعضها تحسب له وكثيرها تحسب عليه، ولكنها كلها تكشف عن تميز الرجل وفرادته وفراسته. 

كما تكشف انه رجل دولة قوي وصاحب وجهة نظر وموقف بالإضافة إلى صفاته الشخصية وثقافته وحرصه على تطوير ذاته وحتى ذائقته الشخصية والفنية. 

رحم الله ابو عمرو عبدالقادر باجمال، فهو من رجال اليمن الكبار الذين مهما اختلفت معه لا تملك الا الاعتراف بمواهبه، واحترام وضوحه وصراحته، وتقدير مودته ولطفه وقدرته على نسج العلاقات والصداقات، ومرونته وحرصه على بقاء التواصل حتى في الخلاف.

ولا شك ان غيابه المبكر عن ساحة العمل السياسي والرسمي بسبب المرض الذي اصابه قد شكل خسارة كبيرة لليمن.

كما ان غيابه الجسدي بالانتقال إلى رحمة الله اليوم والفجيعة التي تسبب بها هذا الغياب تؤكد ما خسرته اليمن واسرته ومحبوه واصدقاؤه وكل من عرف مكانته وقدراته وتميزه حتى مع الخلاف واحسبني واحدا منهم.

* من صفحة الكاتب على الفيسبوك

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص