مركز دراسات: سيطرة "الانتقالي" على عدن قوضت عمل البنك المركزي و"الحكومة" فشلت فى توحيد فروع البنك بمناطق سيطرتها .

*سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي على عدن تشل البنك المركزي وتهدد المالية العامة أعلن المجلس الانتقالي الجنوبي في 25 أبريل/نيسان الإدارة الذاتية وحالة الطوارئ في محافظات الجنوب، كتحدٍ مباشر لسلطة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا. ولكن سرعان ما تبين أن تأكيد المجلس على نفوذه لم يكن أكثر من طموح مفرط؛ إذ رفض العديد من محافظي المحافظات الجنوبية الإعلان؛ ونتيجة لذلك تدهور الوضع العسكري والأمني ​​في الجنوب، واندلعت المعارك بين المجلس الانتقالي الذي تمركزت قواته غربي محافظة أبين والقوات الحكومية التي كانت في الشرق من المحافظة. لكن التطور الأهم هو تعزيز المجلس الانتقالي لنفوذه في عدن، العاصمة المؤقتة والمركز المالي للحكومة، وسيطرته على المؤسسات الحكومية الرئيسية. نصت المادة الرابعة من إعلان الإدارة الذاتية الصادر عن المجلس إنشاء لجان رقابة، تشبه إلى حد كبير اللجنة الثورية العليا التي شكلها الحوثيون لفرض سيطرتهم على المناطق الشمالية من البلاد، تهدف “لمراقبة أداء” المؤسسات و”مكافحة الفساد” بالهيئات المركزية والمحلية. شمل هذا القرار تعيين مسؤولين موالين للمجلس في مناصب إدارية في مؤسسات الدولة، بحسب مصدر مطلع على هذه الإجراءات. أصدر أحمد بن بريك، رئيس الإدارة الذاتية للجنوب، مرسومًا يفوّض جميع مؤسسات الدولة والأجهزة الإدارية في المحافظات الجنوبية بإيداع إيراداتها في حساب بنكي تابع للمجلس الانتقالي بالبنك الأهلي اليمني. وفي 5 مايو/أيار، وجه المجلس الانتقالي مكاتب الجمارك والضرائب العامة التي تعمل في المنطقة الحرة ومناطق المعلا والزيت في ميناء عدن بإيداع إيراداتها في البنك الأهلي بدلاً من البنك المركزي في عدن حيث يجب إيداعها بموجب القانون. ولفرض هذا القرار، أغلق المجلس الانتقالي مكاتب البنك المركزي في ميناء عدن، وصادر 639 مليون ريال يمني من إيرادات الرسوم الجمركية وحولها إلى حسابه في البنك الأهلي. اختار المجلس الانتقالي البنك الأهلي ليكون بمثابة خزينة لما يُسمى بمكتب “الإدارة الذاتية”؛ باعتباره مؤسسة عميقة الجذور ولديه شبكات واسعة في جنوب اليمن. تأسس البنك الأهلي، المملوك بالكامل للدولة، عام 1969 فيما كان يعرف آنذاك بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (المعروفة أيضًا باسم اليمن الجنوبي) عبر تأميم جميع فروع البنوك الأجنبية، وهو البنك التجاري الوحيد الذي يقع مقره الرئيس في عدن. ويمتلك 23 فرعاً في الجنوب وأربعة في الشمال. كما أن محمد حلبوب، الذي عُيّن رئيسًا لمجلس إدارته عام 2017، مؤيد بارز لانفصال جنوب اليمن. لا يزال مبنى البنك المركزي اليمني في مديرية كريتر في عدن تحت سيطرة الحكومة اليمنية شكلياً، حيث يتمركز جنود سعوديون داخل المجمع بينما تحرس قوات تابعة للمجلس الانتقالي محيط البنك، وتبقى قدرته على العمل كما ينبغي -وفقاً للوائحه التنظيمية -موضع شك. تشمل وظائف البنك الأساسية العمل كأمين صندوق ينفّذ ميزانية الدولة، ما يعني أن المجلس الانتقالي الجنوبي قد أوكل هذه المهمة جزئيًا إلى البنك الأهلي عقب السيطرة العسكرية التي فرضها وإعلانه الإدارة الذاتية. وفي مخالفة لاستقلالية البنك المركزي التي ينص عليها القانون، وقّع أحمد بن بريك، رئيس الإدارة الذاتية للجنوب، في 13 مايو/أيار قرارًا يأمر نائب محافظ البنك المركزي شكيب الحبيشي بتحويل 4.5 مليار ريال يمني إلى شركة صرافة؛ لدفع رواتب القوات العسكرية التابعة للمجلس الانتقالي، بحسب مصدر مطلّع على ما حدث. ووفقًا لمسؤول مصرفي رفيع المستوى تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، لا يزال البنك المركزي في عدن يقوم بوظائف أساسية أخرى دون تدخل مباشر من المجلس الانتقالي، مثل إدارة احتياطيات النقد الأجنبي لدعم تمويل الاستيراد. ولكن قدرة البنك المركزي في الحفاظ على درجة من الاستقرار النقدي تعتمد إلى حد كبير على قدرته في إلزام اللاعبين الرئيسيين بسوق الصرف الأجنبي -مثل البنوك التجارية وشركات الصرافة ومستوردي السلع -بالتعاميم الصادرة عنه. ولكن الكثير من هؤلاء اللاعبين الرئيسيين في الجنوب يعملون من عدن ولحج والضالع، أي المحافظات التي سيطر عليها المجلس الانتقالي، ما يعني أن موظفي البنك المركزي المسؤولين عن تنظيم سوق العملات في هذه المناطق يواجهون حاليًا صعوبات كبيرة، ما يحد من قدرة البنك المركزي في الحفاظ على استقرار أسعار الصرف. تسارع تصدّع النظام النقدي وانقسام المؤسسات في اليمن أمرت الحكومة اليمنية بنقل المقر الرئيسي للبنك المركزي اليمني من صنعاء إلى عدن في سبتمبر/أيلول 2016، ومنذ ذلك الحين أصبح هناك بنكان مركزيان يتنافسان على السلطة النقدية. استفاد البنك المركزي في عدن من الاعتراف الدولي به، في حين استفاد فرع صنعاء في فرض سلطته على أكبر مركز مالي في البلاد. قوّض هذا التنافس نظام العملة اليمنية القائم على الريال بشكل متزايد، وحفّز استخدام عملات أخرى وخاصة الريال السعودي والدولار الأمريكي لإتمام المعاملات المالية داخل البلاد. ازداد الوضع سوءًا في يناير/كانون الثاني عقب قرار الحوثيين حظر التداول في مناطق سيطرتهم الطبعة الجديدة من الريال اليمني، الصادرة عن فرع البنك المركزي في عدن، ما أدى إلى تفاوت متزايد في أسعار الصرف بين المناطق الشمالية والجنوبية. واعتباراً من 15 يونيو/حزيران، سجّل سعر صرف الدولار الأمريكي الواحد في صنعاء 625 ريالاً، في حين بلغ 755 في عدن. ازداد التشظي الاقتصادي بعد قرار المجلس الانتقالي تشكيل اللجنة الاقتصادية العليا في 11 مايو/أيار؛ إذ تبدو الأخيرة بمثابة كيان مضاد للجنة الاقتصادية الوطنية التي أنشأتها حكومة هادي في أغسطس/آب 2018. ولا يزال إطار عمل هذه اللجنة الاقتصادية العليا غير واضح إذ لم يُنشر أي تفاصيل بعد، ولكن بحسب المؤشرات المتوفرة، يبدو أن واجباتها الرئيسية تشمل إدارة السياسات النقدية والمالية، مما يعني منافسة البنك المركزي اليمني في تنفيذ المهام الأساسية الموكلة إليه حصرًا وفقًا للقانون. أعلنت اللجنة الاقتصادية العليا في أول بيان لها بتاريخ 13 يونيو/حزيران أنها لن تسمح للبنك المركزي في عدن بضخ أي أوراق نقدية جديدة في السوق بهدف كبح التدهور الأخير في سعر صرف الريال اليمني أمام الدولار. وفي اليوم نفسه، ضبطت القوات التابعة للمجلس الانتقالي سبع حاويات مليئة بالأوراق النقدية المطبوعة حديثًا أثناء نقلها من ميناء عدن إلى مبنى البنك المركزي، ونُقلت تلك الأموال إلى مجمع عسكري تابع للمجلس الانتقالي. وأكد مصدر في البنك المركزي أن قيمة الأموال المضبوطة تبلغ حوالي 60 مليار ريال يمني، أي ما يعادل 80 مليون دولار أمريكي. وكان البنك قد تلقى في مايو/أيار شحنة من الأوراق النقدية بقيمة 110 مليار ريال يمني طبعتها شركة جوزناك الروسية. على الصعيد المالي، نجحت سلطات الحوثيين إلى حد كبير في جمع الإيرادات العامة المتاحة في المناطق التي تسيطر عليها، في حين واجهت الحكومة اليمنية تحديات عدة لا سيما أنها فشلت في توحيد جميع فروع البنك المركزي في المناطق التي تسيطر عليها شكليًا. فعلى سبيل المثال، لم يُربط نظام فرع مأرب بالمركز الرئيسي للبنك في عدن بشكل كامل، ما يعرقل عملية المراقبة ويمنع فرع مأرب من الوفاء بالتزاماته بتحويل كل السيولة الفائضة إلى المقر الرئيسي لفرع عدن. كما يعمل البنك المركزي في محافظتي حضرموت والمهرة بشكل مستقل إلى حد ما فيما يتعلق بتنفيذ ميزانية الدولة، ما مكنهما من السيطرة على الإيرادات المتولدة محليًا -المفترض أن تكون تحت سيطرة الحكومة -وتسهيل الحكم الذاتي لا سيما مع استخدام السلطات المحلية لهذه الأموال. تتعارض هذه الإجراءات بشكل واضح مع قانون السلطة المحلية لعام 2000 وسط غياب دور فعال للحكومة في وضع حدٍ لهذه الممارسات، ويبدو أنها تفرض واقعًا جديدًا قد يدعم أي مفاوضات مستقبلية بشأن تقسيم البلاد إلى أقاليم، والذي يُعد النتيجة الحتمية للحرب بحسب عدة مراقبين بارزين. اتسم أداء الحكومة اليمنية بضعف سيطرتها على السياسة النقدية، ما عرقل قدرتها في الحفاظ على قيمة الريال، كما تعرضت قدراتها المالية للخطر لسنوات؛ وجاء إعلان المجلس الانتقالي الإدارة الذاتية في الجنوب وسيطرته على عدن ليقوّض موقف الحكومة أكثر. تتزامن هذه التطورات مع ضغوط اقتصادية هائلة إذ يتوقع العديد من الخبراء الماليين وكذلك فريق الاقتصاديين في مركز صنعاء انخفاضًا حادًا في التحويلات النقدية، التي تمثل أكبر مصدر للنقد الأجنبي في اليمن، نتيجة الانكماش الاقتصادي المترتب عن الإجراءات المتخذة لمكافحة جائحة كورونا في السعودية ودول أخرى. بالإضافة إلى تقليص وكالات الإغاثة الدولية عملياتها في اليمن بسبب نقص التمويل، ما يعني انخفاض تدفقات النقد الأجنبي إلى البلاد. كما أدى هبوط أسعار النفط العالمية منذ مارس/آذار إلى انخفاض قيمة صادرات البلاد من النفط الذي يعتمد عليه الاقتصاد كمورد رئيسي كونه أكبر مصدر للإيرادات الحكومية. ستؤدي هذه التطورات، التي تتزامن مع سيطرة المجلس الانتقالي على مصادر إيرادات الدولة في عدن، إلى انخفاض الإيرادات الحكومية وبالتالي إلى احتمال فرض تخفيضات هائلة في رواتب القطاع العام. تغلّب البنك المركزي في عدن العامين الماضيين على العديد من التحديات بفضل دعم المملكة السخي، وتحديداً الوديعة التي قدمتها بقيمة ملياري دولار أمريكي عام 2018 لدعم آلية تمويل الاستيراد وفتح خطابات اعتمادات بالتعاون مع القطاع المصرفي لضمان استمرار تدفق السلع الغذائية الأساسية. لعب هذا الدعم دورًا حيويًا في تحقيق الاستقرار الاقتصادي واحتواء الأزمة الإنسانية عبر تثبيت القوة الشرائية للفرد التي ترتبط في الغالب بقيمة الريال اليمني. حصل البنك المركزي على سيولة بالريال اليمني من خلال بيع العملة الأجنبية من الوديعة السعودية، واستخدم هذه الأموال لتمويل العجز الحكومي المرتفع والمساعدة في كبح التوسع النقدي غير المدروس (أي طباعة أوراق نقدية جديدة) لتغطية عجز الميزانية. وبالتالي، كانت الوديعة السعودية مصدرًا هامًا للتمويل العام. لكن الوديعة السعودية قاربت على النفاد إذ أن القيمة المتبقية لا تكفي لتغطية شهرين من الواردات، مع معاناة البنك المركزي في عدن من أزمة في احتياطي النقد الأجنبي قبل إعلان المجلس الانتقالي الإدارة الذاتية. يعد الانقلاب الفعلي الذي قام به الجنوبيون المناصرون للانفصال بمثابة ضربة قوية لاتفاق الرياض الذي رعته الأخيرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 لرأب الصدع بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي، كما أنه خلق ظروفًا ستثني السعودية عن تجديد دعمها وتوفير احتياطي النقد الأجنبي. أضف إلى هذا كله، هشاشة الوضع الأمني ​​في جنوب اليمن، والشلل الذي يعاني منه البنك المركزي في عدن وإعلان السعودية عن خفض ميزانيتها لمواجهة الانخفاض الحاد في أسعار النفط. وفي خضم هذه التطورات، لا يبدو أن هناك مانح دولي آخر متحمس لأخذ المبادرة لتوفير الدعم المالي الذي كانت تؤمّنه الرياض. التطلع قدماً لا يبدو أن الحكومة اليمنية ستكون قادرة على بسط سلطتها في عدن في المستقبل القريب، وبالتالي فإن احتمالات استمرار البنك المركزي بالعمل قليلة. وفي حال موت اتفاق الرياض، فإن الخيار الأكثر قابلية للتطبيق هو نقل مقر البنك المركزي إلى عتق في محافظة شبوة أو سيئون في محافظة حضرموت -ولكن حتى تاريخ كتابة هذا التقرير، لم تكن الحكومة اليمنية قد قدمت أي خطة لتنفيذ مثل هذه العملية. من الواضح أن قرار الرئيس عبدربه منصور هادي عام 2016 بنقل مقر البنك المركزي من صنعاء إلى عدن كان متسرعاً؛ إذ عطل مؤقتًا قدرة البنك عن أداء وظائفه الأساسية. فعلى سبيل المثال لم يتمكن البنك المركزي في عدن من إعادة تثبيت نظام سويفت الذي يحتاج إليه لإتمام المعاملات المالية الدولية إلا في أواخر عام 2017. أجرى البنك المركزي في عدن سلسلة من الإصلاحات المؤسسية والفنية وتنمية موارده البشرية؛ لإعادة بناء قدراته التشغيلية، ونقل مقره مرة أخرى سيكون أمرًا شاقًا للغاية، بغض النظر عن انتشار جائحة كورونا، ومن شبه المؤكد أن هذا سيقوّض وظائفه الأساسية لعدة سنوات. وبالتالي، يواجه البنك المركزي الذي تسيطر عليه الحكومة اليمنية احتمال حقيقي للغاية يتمثل في عدم امتلاكه مكان أو بالكاد أي أموال للقيام بمهامه.
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص