لم تحقق الثورات ما وعدت.. اليمن: ستون عاماً من البحث عن الدولة

منير بن وبر، كيوبوست

 

في منتصف القرن العشرين، حفَّزت موجةُ القومية الشعوب العربية على التطلع لوحدة اندماجية بين الشعوب العربية، وقد كان الرئيس المصري جمال عبدالناصر، أحد أهم رموز الوحدة العربية، ومناهضة الاستعمار والمَلكية.

اعتقد القوميون العرب أن الوحدة هي الحل للخروج من حالة التخلُّف والاحتلال، ولم يكن اليمنيون باستثناء من هذه الموجة؛ حيث كان شمال اليمن تحت حكم نظام ملكي بقبضة إمام الزيدية، بينما كان جنوب اليمن موزّع بين الاحتلال البريطاني، وأكثر من عشرين مملكة صغيرة تُعرف بالسلطنات أو “المشيخات”. كان بعض القوى اليمنية، كلٌّ بأنصاره ودوافعه المختلفة، يبحث عن دولةٍ جديدة، وكان ذلك يعني عملياً الثورة والنضال، فأدى ذلك إلى إراقة الدماء وإنشاء دول ضعيفة وفاشلة لا تزال مستمرة في حالة من عدم الاستقرار إلى اليوم.


*تحرير اليمن
اليمن ليس كياناً سياسياً؛ بل هو أحد الأقاليم والمناطق الجغرافية لشبه الجزيرة العربية؛ لذلك، تناوب على حكم أجزاء مختلفة من إقليم اليمن عدة دول وأسر وسلالات على مر التاريخ.

حكمتِ الطائفةُ الزيدية أجزاء من اليمن، وكان مقرها الشمال، بالذات صعدة، وقد شهد حكمها حالات من التوسع والانكماش طوال أحد عشر قرناً من الزمان، إلى أن قامت ثورة 26 سبتمبر في عام 1962. ولكن الجمهورية الجديدة التي قامت على أنقاض المَلكيَّة الزيدية في شمال اليمن لم تتمكن من الاستقرار لست عشرة سنة بعد الثورة؛ إذ بقيت تصارع الثورةَ المضادة التي شنَّها الملكيون لثماني سنوات.
قوات ملكية يمنية في محاولة لصد هجوم مدرعة مصرية تدعم الثوار الجمهوريين- ويكيبيديا
انتصرتِ الثورة في النهاية، إلا أن الجمهورية دخلت في صراع عسكري سياسي داخلي؛ بسبب محاولات بناء الدولة الجديدة بعيداً عن تأثير القبيلة، وبسبب ميل بعض القيادات إلى التقارب من الحركات القومية الداعية إلى الاشتراكية والوحدة؛ وهو الأمر الذي ترفضه القبائل ذات التوجه الإسلامي. وقد تُرجم ذلك الصراع في انقلاب عسكري على الرئيس عبدالرحمن الأرياني، ثم اغتيال رئيسَين من بعده، لتستقر الأمور نسبياً أخيراً بتولِّي علي عبدالله صالح الرئاسة في عام 1978.


وكما الوضع في الشمال، لم يكن الوضع في الجنوب مثالاً؛ حيث انطلقت ثورة أكتوبر 1963 لإسقاط الاحتلال البريطاني في عدن، والسلطنات الصغيرة في بقية الأجزاء الجنوبية. كان قد مضى على الوجود البريطاني في عدن أكثر من مئة عام، بينما كانت تعود جذور بعض السلطنات إلى مئات السنين؛ كالسلطنة الكثيرية في حضرموت التي تجاوز عمرها حينها أكثر من خمسمئة عام. نجحت الثورة في التخلص من الاحتلال والسلطنات وتوحيد كامل الجنوب في عام 1967.

لكن الانتقال إلى نظام سياسي موحَّد جديد ومختلف ومفلس في الجنوب كانت له آثاره السلبية على استقرار الدولة الجديدة، وقد زادت الأمور سوءاً بسبب اختلاف التوجهات الفكرية بين القومية الاشتراكية المعتدلة التي تفضل الإبقاء على البنى الاجتماعية والاقتصادية السائدة، وبين التبنِّي المتشدد لمبادئ القومية والاشتراكية، وقد انعكست تلك التباينات في شكل تمردات وانقلابات أدت إلى الإطاحة بأول رئيسَين، من خلال اعتقال الأول؛ وهو قحطان الشعبي، وإعدام الثاني؛ وهو سالم ربيع علي. بينما أُجبر الرئيس الثالث، وهو عبدالفتاح إسماعيل، على الاستقالة، وتم نفيه إلى الخارج ليعود بعد بضع سنين مطالباً بالحكم، ومتسبباً في حرب دموية بين الأنصار والمناوئين في عام 1986.

*توحيد اليمن
لم تتمكن أيٌّ من الدولتَين الوليدتَين في الشمال أو الجنوب من الحصول على القدر الكافي من الاستقرار، فضلاً عن الازدهار؛ لكن كانت هناك جهود، منذ الستينيات، لبناء دولة توحِّد الجنوب مع الشمال كجزء من التأثر بالقومية العربية. لم تنجح الجهود في خلق هذه الدولة؛ بسبب اختلاف النظام السياسي والاقتصادي والأيديولوجي إلا في عام 1990 رغماً عن كل الاختلافات وبدوافع أمنية واقتصادية، وهكذا كرر الجميع الخطأ ولم يتعلم أحد من الدرس، وأنشؤوا دولة جديدة لم تستطع هضم التغيرات والاختلافات الجذرية.
وكمثالٍ بسيط على الاختلافات الاقتصادية، كانت الاشتراكية، كما هو معروف، والتي فُرضت في الجنوب، تقوم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج، وكان الاشتراكيون يؤكدون أن الملكية المشتركة للموارد والتخطيط المركزي يوفران توزيعاً أكثر عدلاً للسلع والخدمات ومجتمعاً أكثر إنصافاً، وقد عنى ذلك اعتماد الاقتصاد على الحكومة لدفع الإنتاج والتوزيع؛ وهو ما يتناقض مع النظام الرأسمالي الذي تبنته دولة الوحدة.

*الحنين إلى الماضي
أدى التحول من الاشتراكية إلى الرأسمالية في دولة الوحدة إلى تسريح الكثير من الجنوبيين من وظائفهم بعد خصخصة المصانع والمرافق الاقتصادية التي كانت تمتلكها الدولة الجنوبية، والتي بلغت أكثر من مئة منشأة اقتصادية. وهكذا وجد العديد من الجنوبيين أنفسهم بلا عمل. أسهم في ازدياد الأمور سوءاً عودةُ مئات الآلاف من المهاجرين اليمنيين من السعودية إلى اليمن؛ بسبب قيود الإقامة المفروضة بعد موقف اليمن السلبي من غزو العراق للكويت وتدخل الدول الغربية لتحريرها.

ولكن الاقتصاد لم يكن سوى مسمار واحد في نعش الدولة الجديدة، شملت النكساتُ الأخرى الفسادَ وسيطرة القبيلة، والتيارات الإسلامية والإخوان المسلمين؛ وهي المعادلة التي استخدمها الرئيس علي صالح لترويض الشمال، لكنها لم تناسب الجنوبيين. وهكذا، أصبحت الدولة الجديدة لا تشبه تلك التي حلم بها الجنوبيون؛ فطالبوا باستعادة دولتهم التي خسروها بعد الوحدة. وفي الشمال، عادت الزعامة الزيدية، من خلال سلالة الحوثيين؛ لاستعادة دولتهم التي خسروها إبان الثورة.


تفاقمت الأزمة في اليمن مع موجة ما عُرف بثورات “الربيع العربي”، وأُجبر علي صالح على التنازل عن الحكم قبل أن يُقتل. استلم عبد ربه منصور هادي حكم اليمن ضعيفاً، فما لبث أن أجبره الحوثيون على الهرب ليحكم من المنفى إلى اليوم. ولم يكن ذلك بغريب بالنسبة إلى تاريخ الدولة في اليمن، والذي لم يشهد رئيساً قط حكم حتى تنتهي ولايته، أو يموت طبيعياً أثناء حُكمه طوال ستين عاماً!

لقد كانت رحلة البحث عن الدولة، شمالاً وجنوباً، شاقة ودموية؛ ولم تحقق الثورات ما منّت وما وعدت؛ مما يجعل اليمنيين يحنّون إلى الماضي، رغم أن أغلبهم لم يُعاصر ما قبل الثورتَين ضد الاحتلال والملكية والسلطنات. وفقاً لبعض وجهات النظر، فإن إعادة الماضي بصبغة حضارية من خلال دولتين فيدراليتين، كنظام الحكم في الإمارات العربية المتحدة، مُتحِدتين اتحاداً كونفيدرالياً، يشبه الاتحاد الأوروبي، يمكن أن يكون مخرجاً مناسباً من نفق البحث عن الدولة.

 

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص