في المقال الذي كتبته بمناسبة الذكرى 53 للاستقلال والذي كان بعنوان: "في ذكرى الاستقلال وبناء الدولة في الجنوب"
ناقشني كثير من الأصدقاء مباشرة حول أحد العناوين الفرعية، والذي اعيد نشره وكان عنوانه الفرعي:
- "الجميع أبناء بيئتهم": وجاء فيه:
"في عملية التعايش والصراع تلك لم يكن أي طرف من الأطراف مختلفاً عن الآخر عندما يتعلق الأمر بعلاقته بالموروث الذي شكل تلك التناقضات، وبالثقافة الملتبسة في فهم التقدم والتخلف، ناهيك عما تولده عملية بناء الدولة من تبدلات على صعيد البنية الاجتماعية وما تنشئه من مصالح متعارضة.
غير أن الموقف من إدارة هذه التناقضات كان هو الذي يميز هذا الطرف أو ذاك، ذلك أن اللجوء إلى العنف والقوة لطالما تسبب في أضرار ضخمة، وكان بمثابة المسبار الذي يكشف أكثر الأطراف تأثراً بهذا الموروث، مع أن الجميع كانوا أبناء بيئتهم التي تشكل جانباً من ثقافتهم ووعيهم الاجتماعي، والذي غالباً ما تسبب في نشوء وعي سياسي متراجع عما تعبر عنه المؤسسة الحزبية من موقف متقدم.
كان العنف غالباً ما يغطيه القرار المؤسسي الحزبي، عدا حالات معينة كان يتم فيها العنف ضد قرار المؤسسة السياسية الحزبية.
وبينما كان العنف الذي يتم دفاعاً عن قرار المؤسسة السياسية (الحزب) لا تتجاوز آثاره المؤسسة الحزبية ومؤسسات السلطة لأنه يحسم الأمور داخل المؤسسة الحاكمة، فإن العنف الموجه ضد قرارات المؤسسة السياسية يطال المجتمع برمته لأن العنف هنا لا ينحصر داخل المؤسسة السياسية وإنما يمتد إلى تعبئة المجتمع.
وغالباً ما كانت التعبئة هنا تستنفر البعد القبلي أو المناطقي في البنى الاجتماعية الهشة مما يتسبب في إبطاء عملية الاندماج الاجتماعي.
وبينما نجد أن العنف في صورته الأولى قد أوجد شروخاً داخل المؤسسة السياسية كان يجري تجاوزها سريعاً، إلا النوع الأخير من العنف، واستخدام القوة في مواجهة المؤسسة كان سبباً في خلق شروخ عميقة داخل المجتمع، تتسع وتعجز المعالجات السطحية من انهائها.
لا يمكن النظر إلى هذه الصراعات بمعزل عن حقيقة هامة وهي أن بناء الدولة قد أحيط بصعوبات وتناقضات موضوعية في الأساس كانت تتسرب أحياناً، وبصورة طبيعية، إلى ثقافة الفرد لتحوله من صانع للتحول والتغيير إلى ضحية للتاريخ بما يتفاعل فيه من ميراث.
كم هم الرفاق الرائعين والمناضلين الذي راحوا ضحية هذه الظاهرة."
كان معظم الذين تحدثوا معي يسألون عما كنت أقصده بأن "الجميع أبناء بيئتهم"، وهل لذلك التحديد علاقة بتوصيف الصراعات بأنها كانت من أجل السلطة؟
وفي نقاشي معهم أشرت إلى النقاط التالية:
-إن كثيراً من التقييمات التي انتقدت تجربة بناء الدولة في الجنوب كانت تناقش النزعة الشخصية بعيداً عن البيئة المادية التاريخية والثقافية التي شكلت هذه الشخصية، وهو أمر كثيراً ما كان يأتي ناقصاً من علاقة العوامل المختلفة المؤثرة في السلوك الخاص والعام.
-حاولت على نحو سريع ومتواضع، في ذلك المقال، أن أنبه إلى حقيقة أن التقييم الموضوعي للحدث يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الواقع الموضوعي الذي كانت تعمل في ظله القيادة بما يضخه من صعوبات وإنفعالات بدوافع وتأثيرات مختلفة.
-أن هؤلاء القادة جاءوا من داخل هذه البيئة، صحيح أنهم جاءوا ليغيروها لتغدو المكان الملائم الذي يقيمون فيه مشروعهم، لكنهم كثيرا ما اختلفوا حول عملية التغيير وأدواتها، ومدى نضج الظروف لإقامة ذلك المشروع.
-كانوا كثيراً ما ينقلون خلافهم إلى داخل الحزب لا لإنضاج النقاش والحوار وإنما لإحداث حالة استقطاب ضد، أو مع هذا الخيار أو ذاك.
-كانت البئية من خارج الحزب محرضة على الإختلاف بسبب حالة عدم الاندماج الإجتماعي.
-لهذه الأسباب كان الصراع يتجه نحو السلطة، ولكن من منظور أن كل طرف يريد أن يستخدمها لتحقيقه خياراته، أي أن الصراع على السلطة لم يكن مجرداً من الخيار السياسي الذي يسعى كل طرف في تحقيقه.
-لم يبرئ هذا الوضع حقيقة أن السلطة لم تكن جسراً إلى الهدف السياسي العام في كل الأحوال فلها منطقها الذي تتفوق فيه على الخيارات العامة حينما تبدأ تدق اسفين في العلاقة بين جهاز الدولة الحكومي والمؤسسة السياسية، ويبدأ هذا الجهاز في انتاج شرعية طاردة للمؤسسة السياسية ومقدسة للفرد.
-لا بد أن للبيئة بمكوناتها المادية التاريخية والثقافية أثرها الكبير في ذلك، خاصة وأن الحوار الديمقراطي الداخلي كان يتعثر بعصبية البيئة.
* من صفحة الكاتب على الفيسبوك