بعض الكتاب الذين ينأون بأنفسهم «جداً» عن منطق الطائفية السياسية، يمارسونها بشكل مختلف، ظانين أن أساليبهم تخفي حقيقة تفكيرهم الطائفي الممزوج بعقد أيديولوجية وسياسية، وخيبات أمل راكمتها عقود من الهزائم التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، وطبعت كثيراً من الكتابات بطابع المنهزم الذي يحاول أن يدس هزائمه وراء حروفه، تماماً كما يحاول أن يخبئ طائفيته خلف أقنعة الأيديولوجيا والتحليل السياسي.
يقول هؤلاء الكتاب «اللاطائفيون» إن الحرب الطائفية داخل الجسد العربي، يستفيد منها تجار السلاح وأمريكا وإسرائيل، وإنها ضيعت القضية المركزية للعرب والمسلمين. هذا صحيح. لكن هؤلاء لا يريدون الخوض في مسببات هذه الحرب، ولا الأطراف المستفيدة منها، ولا يقومون بعملية تحليل دقيق لطبيعة الأهداف، بل يكتفون بإلقاء المسؤولية عن هذا النزيف على شماعة الأمريكيين والإسرائيليين، و»الرجعية العربية»، دون الإشارة إلى مسؤولية الأطراف الأقليمية الأخرى، التي تمنعهم «الطائفية المقنعة» من ذكرها.
دعونا نتساءل لندخل مباشرة في صلب الموضوع: هل ذهب العرب إلى إيران وزرعوا جماعات طائفية تدين بالولاء للسعودية أو الإمارات أو مصر على سبيل المثال؟ إيران فعلت. هل هرَّب العرب السلاح إلى داخل إيران لزعزعة أمنها واستقرارها، وضرب نسيجها الاجتماعي؟ إيران فعلت. هل هدد مسؤول عربي واحد باجتياح إيران، والذهاب إلى الأحواز العربية، وتحرير المدن الإيرانية من قبضة نظام الآيات في طهران؟ إيران لا يكف قادتها الدينيون والسياسيون والعسكريون عن ترديد نغمة «تصدير الثورة الإسلامية»، وتحرير اليمن والبحرين، أسوة بتحرير لبنان وسوريا.
ليقل كتبة إيران «اللاطائفيون» من يتدخل في شأن الآخر؟ العرب أم الإيرانيون؟ ألم تبلغ الجرأة ببعضهم أن يقول «حلال على الشاطر» الإيراني ما يفعله في بلداننا من تخريب وإرهاب طائفي وفساد كبير؟ قد يقول قائل إن عدم معاملة العرب لإيران بالمثل لا يعود لتعقل العرب، وقد يكون في ضعف الأداء السياسي العربي ما يؤيد فرضية عدم القدرة على التعامل بالمثل. لكن تبقى الحقيقة الواضحة، وهي أن العرب لم يهددوا الإيرانيين كما يفعل ساسة إيران في سلوكهم العدواني إزاء العرب اليوم، وأن نظام الآيات في طهران يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عن استعار الحرب الطائفية في المنطقة، مهما حاول هؤلاء الكتاب إبعاد المسؤولية عنه. جردة بسيطة للغة الأداء الدبلوماسي على جانبي الخليج العربي – على سبيل المثال- تثبت نزوع الخطاب الإيراني إلى عصبوية طائفية استعلائية فارغة، ولغة خالية من الدبلوماسية في أغلب الأحيان، عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الإيرانية العربية.
الصراع مع الإيرانيين ليس صراع الأطماع السياسية، الذي تتحمل فيه جميع الأطراف مسؤوليات متساوية إزاء تفجره، إنه صراع بين أهل الأرض، والهجمة الخارجية التي تعطي كل القوانين الدولية من يتعرض لها الحق في مقاومتها. إنه صراع بين مقاتلين يدافعون عن حريتهم وبلدانهم وغزاة من نوع آخر، يغزون بجماعات مؤدلجة لا تدين بالولاء لأوطانها، ولكن تدين بولائها لنظام ثيوقراطي عابث، جماعات تقدم «الولاء الطائفي» على «الولاء الديني»، ناهيك عن جيش من الخبراء الإيرانيين، وجسور ممتدة من السلاح الذي يصل بشكل مستمر من إيران إلى سوريا ولبنان واليمن، حسب تقارير دولية.
يعرف «عرب إيران» تلك الحقائق، لكنهم يحاولون بالطبع في نوع من «التقية الكتابية» تغطيتها بجعل المسؤولية مناصفة، وهم في حقيقة الأمر راضون عن مثل هذا الوضع الذي يرونه يصب في صالح ولاءاتهم الأيديولوجية المعتقة التي لا يزالون يحتفظون بها من ستينيات القرن الماضي، والتي تتحدث عن «الرجعية العربية»، في مقابل «إيران الثورة»، أو إن شئت عن «الإسلام البدوي الوهابي» مقابل «الإسلام الحداثي الخميني»، مع أنهم يفاخرون بعلمانية زائفة لا تعتد كثيراً بالتصنيفات الدينية. إنها المناكفات العقيمة، وحروب دونكيشوت التي يروق له أن يفجرها لإرضاء غرائزه الخاصة، التي تعود لرؤى أيديولوجية معتقة، تغطي سلوكاً طائفياً ملثما.
لو أن «عرب إيران» توقفوا قليلاً، ولم يتركوا العداء لـ»الرجعية العربية»، و»ممالك النفط» و»البترودولار»، كما يحلو لـ»كتبة إيران» أن ينظروا، لو أنهم لم يتركوا هذا الحقد يتحكم في مسارات سلوكهم الكتابي، ويؤثر على حقيقة انتمائهم العضوي لثقافة يفترض أن يكونوا منتمين لها، لما سلكوا هذا المسلك، ولو أنهم يكتبون بقصد الحرص على سلامة الأمن العربي، والنسيج الاجتماعي في المنطقة، لكانت لكتاباتهم ألوان مختلفة، ورؤى متعددة، ولكتبوا في تحليل واقع التدخلات الإيرانية في المنطقة، وسبل مواجهتها، هذا لو أنهم فعلاً يريدون وقف النزيف في الجسد العربي، ورأب هذا الصدع الطائفي الذي يتحدثون عنه.
لنسمِ الأشياء بأسمائها: هذه الوجوه الملمعة، والرؤوس الكبيرة التي تتدلى تحتها ربطات عنق أنيقة، هي لمعممين دسوا عمائمهم في منحنيات الأساليب الكتابية تارة، والخطاب القومجي تارة، والتنظيرات الحداثوية تارات أخرى.
شكراً للآلام، علمتنا مكامن الأمراض.