هل تُفضّل الاحتلال؟

في كتب التاريخ ووثائق الأجهزة وذاكرة الشعوب، تتضارب المعلومات والتحليلات حول أحداث ووقائع الفترات الماضوية في حياة الدول والمجتمعات، وعلى وجه الخصوص والأهمية: فترة الاحتلال الأجنبي.

 

كثير من مخزون هذه الكتب والوثائق والذاكرة مكتظ بالمآسي والويلات التي تختلط فيها الدماء الحرة بالدموع الحارة والأوجاع المُرّة.. وكثير منها يكشف عن أمور أو أسرار لم يعرفها بسطاء الناس قط ، والقليل من عرفها بعد حين.. وظل كثير منها يحمل مشاعر متضاربة ومواقف متخبطة تجاه حقيقة ما حدث فعلاً في تلك الفترة.

 

غير أن أخطر ما في الأمر هو اختلاط الحق بالباطل وامتزاج الحقيقة بالزيف في عديد من الحالات. فقد يأتيك من يصدمك بمعلومة أو وثيقة أو حتى بموقف مستمد من شعور ذاتي محض يتبدّى لك بعدها أنه لم يكن ذاتياً البتة وانما هو شعور جماعي واسع ! .. فاذا به يقلب في وعيك ووجدانك موازين الخطأ والصواب في تقييم مجريات التاريخ -من منطلق قراءة الوقائع وكتابتها على السواء- وما يعنيه ذلك من ضرر فادح بالوعي الجمعي والوجدان العام. … قد يختلف كثيرون حول أبشع احتلال في القرن العشرين.. هل كان احتلال فرنسا للجزائر ؟ .. أم احتلال بريطانيا للهند ؟ .. أم احتلال ايطاليا لليبيا ؟ .. أم احتلال اليابان للصين ؟ .. أم أنه احتلال المانيا النازية لعدد من البلدان أبّان الحرب الكونية الثانية؟ ولكنك اذا سألت عدنيّاً عن احتلال الانجليز لبلاده، وبالأحرى لمدينته ، فانه سيُطلق تنهيدة حرَّى قبل أن يُجيبك بأنه كان أجمل احتلال في الوجود، ثم يُكيل اللعنات لمن أسهم في جلاء البريطانيين عن البلاد في 30 نوفمبر 1967 بعد احتلال دام 129 عاماً. طبعاً، هنا يكون الحديث عن عدن وحدها دون سائر المناطق الأخرى في جنوب اليمن التي أحتلتها

 

بريطانيا تباعاً بدءاً من يوم 19 يناير 1839 وبالأخص مناطق الريف النائية التي حكمها الانجليز بأدوات وشخصيات وكيانات محلية. فهذه المناطق لم تكن مخملية الواقع على الاطلاق. فما الذي يدعو العدنيّ إلى استجرار خبايا الذاكرة تجاه الاحتلال الأجنبي بشيء ثمين من الحب والحنين، في مقابل الامتعاض الشديد من ذكريات عهد الحكم الذي خلف الاحتلال بعد اعلان الاستقلال؟ … ان الخوض في هكذا مسألة بغرض الاجابة عن هكذا سؤال ليست بذلك التبسيط الذي يظنه أيُّ شخص، أكان مؤرخاً أو باحثاً سياسياً أو مختصاً أو معنيّاً بأي شكل من الأشكال، ناهيك عن شخص عادي كان من مُعايشي تلك الفترة أو ممن قرأ أو سمع عن وقائعها. انها حالة شديدة الاستثنائية في حياة شعب ومجتمع وتاريخ شديد التعقيد، فالأمر جدير بالبحث العميق والدرس الجاد والتحليل المنهاجي.

 

يومَ خرج الأنجليز من عدن كنتُ طفلاً. ثم ما قرأته وسمعته لاحقاً من تفاصيل وجوده ومقاومة هذا الوجود -في عدن خصوصاً والجنوب عموماً- دفعني الى موجات تترى من التخبُّط في ضبابية الرؤية جراء سرابية المعلومة وهشاشة التحليل، غير أنني لم أصل يوماً إلى قناعة بأن الاحتلال يمكن أن يكون أفضل من الاستقلال.

 

ولكنني ظللت أسائل نفسي: لماذا يتحسّر البعض -ورما الكثير- على عهد الاحتلال، ويتجاسر على عهد الثورة والاستقلال ؟ .. وهل هذا الشعور هو ما دفعهم الى استمزاج الاحتلال الجديد الذي يُمثّله اليوم بدو الجزيرة الذين لا يملكون ما نسبته واحد من ألف من تاريخ عدن والجنوب واليمن وأهلها؟ ومرة أخرى: ان من يعتقد بأن الاجابة عن السؤال بسيطة ، فهو متباسط ذهنياً! … لا يزال الباحثون السياسيون والمؤرخون -وحتى هذه اللحظة- يحاولون الاجابة عن سؤال: – هل كان الاستعمار الأوروبي للبلاد المتخلفة في آسيا وأفريقيا (والبلاد العربية تحديداً) شرَّاً كله؟ أم أن فيه شيئاً من النفع ؟ .. وهم يضربون أمثلة على ذلك “الشيء من النفع” مثل: ادخال نظم ومناهج التعليم الحديثة، والرعاية الصحية المتقدمة، ووسائل النقل والاتصال والتقنيات المتطورة، وتوحيد القبائل ومَدْنَنَتها من بعد تقاتُل وتنافُر ، وغيرها من المظاهر والوسائل التي نقلت تلك المجتمعات من كهوف القرون الوسطى الى آفاق العصر الحديث. وفي الوقت نفسه ، لا يزال هؤلاء أنفسهم، يحاولون الاجابة عن سؤال آخر لا يقل أهمية عن سابقه:

 

– لماذا لم يسعد الكثير من الشعوب التي نالت استقلالها عن الدول الاستعمارية؟ وبصيغة أوضح: لماذا صارت أوضاعها -في معظم مجالات حياتها- أسوأ مما كانت عليه تحت سلطات الاحتلال؟ انهم لا يزالون يحاولون الاجابة.. فهل يملكها القارىء الكريم؟

 

* عن (يمن مونيتور)

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص