علي صالح عباد «مقبل» علم من أعلام الكفاح الوطني وحرب التحرير الشعبية ضد المستعمر البريطاني. هذا المناضل العتيد كان بطلاً من أبطال حرب التحرير، ورمزاً من رموزها.. منذ بداية الكفاح المسلح ضد بريطانيا كان «مقبل» في قلب الثورة.
أسرة «مقبل» من الأسر الكبيرة ذات الأملاك الشاسعة.. لعب «مقبل» دوراً كبيراً في مصادرة الملكيات الكبيرة لصالح الثورة، ووقف إلى جانب الزعيم الوطني علي سالم ربيع «سالمين» كأمين مساعد مع المناضل الرمز الثقافي والإبداعي عبد الفتاح إسماعيل.
في العام 1976 تشكل وفد من نقابة الصحفيين أو بشكل أدق جمعية الصحفيين.. انتخب عبد الله الوصابي كأول نقيب للصحفيين، وتشكل وفد لزيارة عدن، والالتقاء بالزملاء الصحفيين فيها، حيث تشكلت لجنة تحضيرية مشتركة، ثم اتفق على تشكيل منظمتين للشمال والجنوب، وكان ذلك بحضور الأستاذ كامل زهيري الأمين العام لاتحاد الصحفيين العرب، على أن يجري التنسيق بين الكيانين النقابيين، ويكون تمثيلهما واحداً في الاتحاد الصحفي العربي والدولي.
زرنا الرئيس سالم رُبِّيع علي «سالمين» في مكتبه بمقر اللجنة المركزية، ودخلنا مكتب عبد الفتاح إسماعيل، وعلي صالح عباد «مقبل»: الأمينين المساعدين لسالمين، وكان ذلك بداية التعارف.
في الصراع الكالح الذي دار، وفي مواقف كثيرة سجل عباد مواقف رائعة في حماية العديد من رفاقه وآخرين في حُمَّى التصفيات.
يُذكر أن عمر الجاوي تعرض للاعتقال- ربما كان ذلك في منتصف السبعينات-، وعندما عرف مقبل تحرك لمكتب المسئول الأمني، ولم يخرج إلا ومعه الجاوي.. في ذلك الوقت كانت الاعتقالات -أحياناً- تنتهي بالتصفية.
بعد استشهاد «سالمين» جرت اعتقالات للقيادات القريبة منه، وطالت التصفية العديد منهم، وكان نصيب «مقبل» الاعتقال، ولكنه كان اعتقالاً أقسى بكثير من الإعدام.. اعتقل في زنزانة بلاؤها أقسى من كل أشكال التعذيب. سرد لنا – نحن رفاقَهُ-: قادري أحمد حيدر، والدكتور يحيى صالح، وعبد العزيز الزارقة- عن أوضاع الزنزانة المهين للكرامة الإنسانية.
لا بد من امتلاك اليسار القومي الشجاعة لإدانة تجربتهم البشعة في الحكم، وفي التصفيات والمعتقلات، وتحديداً ما لحق بـ «اليمين الرجعي»، و«اليسار الانتهازي»، وما بينهما، وما طال أيضاً الشباب الناصري، والاتجاهات السياسية المختلفة من البعث، والإسلاميين، ورجال الدين، و...و... الخ. الإدانة مهمة؛ لأن فيها تحصيناً وتوعيةً للأجيال الجديدة من الانزلاق للعنف والتعذيب.
المهم أن عباد خرج من الزنزانة «الخرائية» قبيل كارثة 13 يناير 86 مع آخرين من رفاق سالمين: كالفقيد الكبير عبد الله صالح البار، وسالم باجميل، وحسن باعوم، وغيرهم.
في الشمال، وضمن جماعة علي ناصر محمد، احتفظ الرجل بتاريخه الوطني، ومواقفه اليسارية، ولم ينخرط في اللعب التي كان يجيدها بمهارة علي عبد الله صالح؛ لإيقاع الآخرين في شباكها.
التقيتهُ بعد الوحدة في مكتب محمد سعيد عبد الله. كان -رعاه الله- في كامل اللياقة.. تحدثنا معاً، وتواعدنا على التلاقي.
ظل مقبل محتفظاً بكبريائه.. لم تنل منه الزنزانة والتنكيل والتهميش من قبل حركة ثورية، وحزب سياسي أسهم بنصيب وافر في بنائه منذ اللبنات الأولى. كان مقبل الذراع اليمنى للزعيم الوطني سالم ربيع علي.. خرج من دولة حزبٍ ساهم في وصوله إلى السلطة، ليجد نفسه في الزنزانة.
عاش مقبل عفيفاً، لم تنسب له أية مخالفة تتعلق بالسمعة، أو أنه استخدم موقعه الحساس والمهم للكسب، أو الاستبداد، أو الفساد.
شطط الأفكار، والتطرف، و «التياسر» قضية مشتركة بين الاتجاهات اليسارية حينها، وربما تجلت أكثر في الجبهة القومية، والتنظيم السياسي؛ بسبب الصراع على السلطة، وغرور التفرد. وهي سمة عامة، وقاسم أعظم بين حركات التحرر الوطني في البلدان المتخلفة. ورفاق «مقبل» الشبان المتفتحين على الماركسية كانوا أبناء بنية مجتمعية شديدة التخلف، وتسود فيها ثقافة الاستبدادية التي دمغت جل الحركات الثورية والتحررية في القارات الثلاث.
كان «مقبل» عنواناً ثورياً، نقي الضمير، صادق المواقف، دفع ثمن إخلاصه للتجربة الثورية في الجنوب. وتجربة اعتقاله ورفاقه تحتاج إلى دراسة وتوثيق.
غَبنُ ابن عباد أن اعتقاله قد تم على يد رفاق وتلاميذ كان يختلف معهم، ولكنه لم يكن يتصور أن يصل الأمر إلى ما وصل إليه بعد انقلاب 78.
احتفظ ابن عباد بتوازنه النفسي، وابتعد عن الصراعات التي سادت بعد كارثة 13 يناير 86 بين رفاق الحزب الاشتراكي، كما تجاوز قبلها المرارة التي مر بها بعد كارثة انقلاب يونيو78.
بعد الوحدة، وبعد انتخابات 94 فاز «مقبل» بعضوية مجلس النواب، وفيما بعد أصبح في هيئة رئاسة المجلس، وكان في مواجهة دائمة وعقلانية مع جماعة المؤتمر والإصلاح اللذين شكلا ثنائياً ضد أي مشاريع أو قوانين تهدف لإنهاء الفساد، والاستبداد، وسيطرة القوى التقليدية المهيمنة على جهاز السلطة: سلطة الـ ج. ع. ي. التي ظلت تحكم حتى بعد قيام الوحدة. فقد رفضت هذه السلطة توحيد ودمج الجيش والأمن على أسس وطنية، والحد من تغول المركزية، وتركز السلطة في يد الرئيس صالح. لقد حالت هذه السلطة دون تحقيق اندماج وطني حقيقي، وقامت بتهميش القيادة الجنوبية، والإساءة إلى تجربة ثورة 14 أكتوبر، وتدمير المكاسب الوطنية لهذه الثورة.
وجد «مقبل» نفسه في مواجهة دائمة مع المؤتمر والإصلاح المسيطرين على المجلس النيابي، ولكنه بجلد وعقلانية وصبر استطاع نسج حوار مفيد وبنَّاء مع التيار العقلاني داخل المؤتمر: على مقبل غثيم، ومحمد عبد الله الفسيل، وحسين العمري، وعلى لطف الثور، ونعمان المسعودي، وآخرين، وتم بجهد هؤلاء إلغاء المعاهد، وإعادة النظر في المنهج التعليمي. وحقاً، فإن للدكتور ياسين سعيد نعمان، وكتلة الاشتراكي، والناصري، والمستقلين دوراً مشهوداً في توحيد مناهج التعليم.
لقد مثل إلغاء المعاهد العلمية ضربةً قويةً للعربية السعودية التي فرضت المنهج التعليمي منذ اتفاقية المصالحة1970، وكرست هيمنة الإسلام السياسي على التربية التعليم والأوقاف، والتوجيه السياسي في الجيش والأمن.
أقصت الحرب ضد الجنوب في 94 الجنوب، وجرى خلال فترة الوحدة 90 -94 اغتيال أكثر من مائة وخمسين من كوادر الاشتراكي. فقد جرت محاولة لاغتيال الدكتور ياسين سعيد نعمان بقصف منزله بالصواريخ، وكان حينها رئيساً لمجلس النواب، كما جرت محاولة اغتيال الدكتور عبد الواسع سلام وزير العدل، أما «مقبل» فقد تعرض لأكثر من محاولة اغتيال أبرزها في أبين بواسطة طارق الفضلي، أحد قيادات القاعدة، ونسيب قائد الفرقة الأولى مدرع علي محسن الأحمر.
لقد كانت حرب 94 أم الكوارث كلها؛ فقد دمرت تجربة الجنوب، وأنهت مشاركته، ووضعته تحت احتلال مباشر لقوات صالح، والإصلاح، والقاعدة، وأنصار الشريعة.
في حمى الحرب هُوجِمَ منزل علي صالح عباد، وفُتش تفتيشاً قاسياً، وحوصر البيت بالأطقم العسكرية، ولم تشفع له عضويته في النواب.
حدث ضغط داخلي وخارجي للإبقاء على التعددية والهامش الديمقراطي؛ فكانت بداية الانفراجة. دعانا صالح إلى منزله في شارع صخر، فحضر مقبل، ومحمد غالب، ومحمد حيدرة مسدوس، وفضل محسن، وعبد الغني عبد القادر, والمرادي، ولا أتذكر بقية الأسماء، وجلهم أعضاء في المكتب السياسي.. تحدث صالح، «وبراءة الأطفال في رجليه»، عن فتح صفحة جديدة، وعن تصالح وتسامح. رد عليه مقبل: بأن الأهم إطلاق المعتقلين السياسيين، وعودة ممتلكات الحزب، وإعادة المقرات المنهوبة، وتطبيع الحياة السياسية، وإيقاف الملاحقات والمحاكمات لقيادات وأعضاء الحزب، وعودة الصحف الحزبية المصادرة.
عُقد المؤتمر العام للحزب، فانتخب «مقبل» أميناً عاماً، وتصدى في ذلك الوقت لأكثر الحملات ضراوةً وتوحشاً ضد الحزب، وبالأخص من الأجهزة الأمنية، وبعض قيادات التجمع اليمني للإصلاح ومنابره الإعلامية.
استمرت الإجراءات القمعية والمصادرة ضد الحزب، وكان مقبل يذهب بنفسه لزيارة المعتقلين، ويدافع عنهم، ويحضر أحياناً المحاكمات.
أُعيد إصدار «الثوري»، بينما صودرت صحيفة «المستقبل»،
و «صوت العمال»، الصحفيتان التابعتان للحزب، كما نُهِبَ كل إرشيف الحزب ووثائقه، وإرشيف الصحافة التابعة له. بدأنا من الصفر، ولقينا تعاوناً كبيراً من الزملاء في «الشورى»، ومن قيادة حزب اتحاد القوى الشعبية، وكان طاقم صحيفة «الشورى» يوفرون لنا كل شيء لصالح إصدار الصحيفة «الثوري»، وبالأخص الصحفي القدير عبد الله سعد. وكان الزملاء: حسن عبد الوارث، وأحمد باشراحيل، وصادق ناشر، وفيما بعد خالد سلمان، وعبد الله علي منصر، وصالح الحميدي، وقاسم عبد الرب، ومحمد المطاع- هم اللبنات الأولى في إصدار صحيفة «الثوري»، بعد صحيفة 94، وكانت شجاعة وفدائية «مقبل» هي السند والعون والحماية. كنا نسهر في الليل على إخراج العدد، ليصادر فجراً؛ فنعاود من جديد العمل على الإصدار، وكأننا في معركة مع الأمن السياسي، وسباق مع الزمن. هذا بالإضافة إلى التهديد، والحصار، وافتعال المحاكمات للمحررين. ولعل الزميل العزيز حسن عبد الوارث هو خير من يتكلم عن هذه الفترة البائسة. فخلال زمن قياسي صدر 13 حكماً ضد خالد سلمان، كلها تقضي بالسجن والتغريم المالي.
ذهبت مع «مقبل» لزيارة أمين أحمد قاسم الذي كان في الإقامة الجبرية في منزله بعد خروجه من السجن، فوجدنا جنديين على الباب منعانا من الدخول، لكن مقبل أزاحهما بيده قائلا: عيب! أنا أمين عام الحزب الاشتراكي.
لـ«مقبل» مواقف مع علي عبد الله صالح بعد الحرب تشهد على مدى شجاعته وصراحته؛ فعندما قال له: أين الأموال المدنسة التي نهبها الاشتراكي؟ وضع مقبل يده على بطن صالح، وقال له: الأموال المدنسة هنا!
بكل تأكيد، نظافة «مقبل»، وشجاعته، وصراحته هي ما أعاد الاعتبار للحزب بعد حرب 94 ..كان عملنا في الصحيفة «الثوري» وسيلة التعبير الوحيدة يومها عن وجود الحزب.
في مرحلة ما بعد حرب 94، وتحديداً في المؤتمر الخامس، كان مقبل هو المؤسس الحقيقي للحزب الاشتراكي الجديد. فهذا المناضل المحاصر بكارثة حرب 94 وتبعاتها، وبعد قرار جزء من القيادة التاريخية إعلان الانفصال، والهرب، والتنكر للحزب، والبراءة منه، وشن الحملات ضده، والتحريض عليه في الجنوب، وإنكار بعضهم يمنية الجنوب- نجده يتصدى لإعادة الحياة إلى حزب متهم بالخيانة العظمى.
كان الزنداني يشترط خمسة شروط لقبول توبة الحزب الاشتراكي قبل حز الرؤوس، وكانت أجهزة الإعلام، وخطب المساجد، والخطاب السياسي السائد يتهم الحزب المحروب والمهزوم بالعمالة، والكفر، والخيانة.
تصدى «مقبل» للمهمة ببطولة تراجيدية ضحي فيها بأمنه وسلامته وسلامة عائلته التي كانت هي الأخرى تتعرض للتهديد، والإساءة، والحصار، والتجريم، وقد كان جزء من القيادات القديمة، والقديمة- الجديدة غير مقتنعة بقيادته، وبعضهم يجتر خصومات الماضي، والرجل- مع ذلك- صارم لا يقبل المساومة، أو المجاملة، أوالممالأة وهو -قبل ذلك، وبعد ذلك- يعاني من متاعب صحية من آثار الرصاص الذي أنهك جسده النحيل.
محاولة الاغتيال لا تزال تُوَشِّي جسمه الشائخ والهزيل.. فتحيةً لمقبل الإنسان البسيط والمتواضع.. القامة السامقة التي تحدت جبروت صالح، وعنجهية الأحمر، وصلف الأجهزة الأمنية التي لا تعرف ولا تجيد غير الإساءة والقمع.
ــــــــــــــــ
رحمة الله تغشاه وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله وذويه البأس والصبر والسلوان وعزاؤنا للحزب الاشتراكي اليمني العظيم واللجنة المركزية والأمانة العامة وللوطن اليمني الكبير في رحيل هذه القامه الوطنية الباسقة.
وانا لله وانا اليه راجعون.