استمر صراع العقل مع العمى والعلم مع الجهل والتقدم مع الرجعية والتخلف، تغلبت القوى الجامدة فكراً وحركة بكل تشكيلاتها، القبلية الرادكالية والسلالية التي احتكرت البلد حصرياً لصالحها على حساب قوى الحداثة والبحث والتنوير والعلم، لأنها امتلكت عوامل الغلبة والسطوة من العسكري إلى السجن والقيد إلى أسباب العيش الوظيفة العامة ومصادر الدخل وقوة السلطة والسطوة، في المقابل لم تمتلك القوى الوطنية النيرة سوى القلم والكتاب والخطة الأكاديمية والبحثية الإدارية والرؤية الاقتصادية والسياسية المتساوقة مع العالم المتقدم في شرقه و غربه.
حوربت هذه القوى منذ نشأتها في ثلاثينات القرن الماضي عام 1935م في عهد الحاج يحي حميد الدين إبان إرسال أول بعثة تعليمية عسكرية للدراسة في الخارج بقيادة عبدالله السلال ومحي الدين العنسي، الذي بكته الأوساط الثقافية العربية عند مقتله على إثر حركة 1948م، والذين أوقفتهم حادثة النور واللمبة الكهربائية عند رحلتهم على ظهر السفينة التي ابحرت بهم صوب العراق إذ اعتقدوا أنه قد تم خرق السفينة وعند فَزَعهمْ جاء ربان السفينة ليخبرهم أنه نور لمبة كهربائية، ولم تخترق الشمس جدار السفينة. هنا وقف الرجل وقال من هنا يجب أن ينبثق النور ومن هنا نبدأ، حملوا معهم اليمن هماً وقضية رافقهم في دراستهم وعادوا ليحفروا في جدار الظلم فتحة للنور.
كانت تلك البعثة أول كوكبة من كواكب التنوير، ثم استمرت البعثات بعدها إلى الخارج واستمر التلاقح الثقافي والفكري لتلك البعثات مع باقي القوى العربية التي كانت تسعى لتحرير شعوبها من نير الاستعمار أو ظلم الحكام. عادوا وفي فمهم بشرى وفي يدهم شعلة تهدي. عاودا كأول فريق يواجه حكم السلالة وتخلف القبيلة عساكر الإمامة التاريخين ومعول هدم كل الحركات الوطنية.
تتالت البعثات إلى لبنان ومصر ومن ثم إلى روسيا وفرنسا وكثير من الدول فكانت بمثابة الصواعق التي فجرت براكين الثورات اليمنية في شمال اليمن وجنوبه، وشَكَّلت الحراك الثقافي والتنظيمي والسياسي الذي أفضى إلى قيام ثورة 26 من سبتمبر.
بدأت المعركة بعدها من جديد مع القوى التي اعتلت موجة الثورة ولم تحمل أهدافها وهم التغير الجذري والشامل فيها، والمتمثلة بإقامة دولة العدل والمساواة بين كل طبقات المجتمع وفئاته المختلفة، بل كان لديها ثأرات مع الإمامة ومطامع سلطة ولديها مجاميع من الغوغاء والجوعى تسندها وتجري وراها بلا علم او دراية بالغاية والسبب.
أشار الأستاذ محسن العيني، الذي تولي العديد من المناصب وكُلَّف بالكثير من المهام عقب الثورة، في كتابه "خمسون عاماً في الرمال المتحركة"، إلى امتعاض وكره المشايخ للحركات الثقافية التنويرية والحزبية حيث كان بعض من كبار الضباط يظهرون دوماً امتعاضهم من " هؤلاء الشباب المتطرفين الحزبيين" ولا تتوقف هذه النظرة عند الحزبيين بل تعم معظم الخريجين والمثقفين وإن لم تكن لهم صلة بالأحزاب.
وعليه فأنى لدولةٍ أن تُبنى وتلك نظرة ومفهوم كبار المسؤولين فيها للدولة والثقافة والعلم وللتنظيمات الجماهيرية والتنوع الفكري والمذهبي وطرق ممارسة الحقوق الإنسانية ومفهوم الديموقراطية والحق في تولي السلطة وتقاسم الثروة بين كل أبناء اليمن وفقاً لأسس وطرق علمية حديثة.
بل إن فكرة التنظيمات الشعبية والجماهيرية باتت عندهم مرادفة "للتطرف اليساري المرفوض" والغرض من ذلك ترويع المتدينين والعامة الذين لا يعرفون الحقائق. والحقيقة أن كل جماهير الدنيا التي تمتلك الحرية لا تمارس حقها في الحرية والعيش الكريم إلا عبر النقابات والاتحادات والجمعيات والتنظيمات السياسية والحزبية والجماهيرية الحديثة والصحافة الحرة والتعليم والشخصيات السياسية الوطنية المستقلة والمنظمة.
وعلى إثر ذلك تم محاربة دور تلك القوى والتنظيمات، وتغييب دور كل الداعمين من التجار ورجال الأعمال وتهميشهم وعدم ذكرهم في سجلات ومدونات الثورة إلا الذين كتبوا مذكراتهم مثل الشيخ ورجل الأعمال عبد الغني مطهر والتي دونها في كتاب" يوم ولد اليمن مجده". وكذلك عبر اغتيال معظم مخططي ومنفذي ثورة 26 من سبتمبر بحجة ميولهم إلى الأحزاب اليسارية والقومية برغم وجود أحزاب يمينية وبعثية كانت تمارس حقها فقط لأن رجالها على صلة بالسلطة والقرار السياسي مع الإشارة إلى أنه كان هناك نوعٌ من التطرف من بعض تلك التنظيمات والاندفاع دون مراعاة لعادات وخصوصية المجتمع وثقافته وتمسكه بشعائر دينه.
كما حوربت كل اتفاقيات الوحدة اليمنية حتى آخر لحظة قبل تحققها بحجة الحفاظ على بيضة الدين والذود عن حياضه ومحاربة الشيوعية ودعاة القومية، حتى قُتل الحمدي بدوافع الخوف من تقاربه من القوى التقدمية والحزبية، برغم انتماء الكثير من المشايخ لأحزاب مختلفة وإستلامهم لمخصصات مالية شهرية وكذلك استلام الكثير منهم اعتمادات ولاء خارجية علناً وخفية.
كما تم محاربة ومطاردة الكثير من الحزبيين و الأكاديميين واساتذة الجامعات والكُتّاب والصحفيين وناشطي حقوق الإنسان، بل تم التخلص من كثير منهم و تصفيتهم جسدياً. فكانت أكبر مذبحة أُعملت في حق الشباب عقب محاولة انقلاب الناصريين عام 1979م إذ تم إعدام نخبه متميزة من الشباب الوطنيين مدنيين وعسكريين، وقضى معظم من بقي من الاشتراكيين ولم يتمكنوا من الفرار إلى عدن في السجون مدد زمنية مختلفة وطالهم التعذيب حتى فقدوا قدراتهم الجسدية والعقلية، بحجة المحافظة على الدين الذي ركبت الحركة الحوثية موجته اليوم وأعملت السيف في رقاب كل من خالفها ومنهم معظم المعارضين لتلك التيارات من قبل، وتجرع الناس من نفس الكأس وذاقوا المرارات ذاتها سجناً وتشريداً وتعذيباً وقتل.
وعليه لن تصلح اليمن بعد كل هذا الدمار والخراب إلا إذا أصبحت موطناً للجميع على درجة واحدة من المساواة في الحقوق والواجبات لكل أبناء الوطن، شماله وجنوبه، ساكني الساحل أو من سكن على رؤوس الجبال، ولكلٍ حقه في ممارسة ما يريد من التعبد والتمذهب والالتحاق بالأحزاب السياسية بكل حرية وتقبل جميل ورضا تام من كل ممثلي الشعب دولة برلمان وسلطات تشريعية وتنفيذية.
وسيضل السؤال أمام الباحثين والكتاب والمهتمين بالشأن اليمني قائماً يبحث عن إجابة... من الذي تخلص من أول خلية تنظيمية للضباط الأحرار المكونة من خمسة ضباط في أول شهر بعد اندلاع ثورة 26 سبتمبر؟ و من هي القوى التي وقفت وراءهم؟؟
رحم الله شاعرنا البردوني لسان حال كل اليمنين في ماضينا وحاضرنا والغد، حيث قال:
ومـاتـزال بـحـلقي ألـف مـبكيةٍ * مـن رهبة البوح تستحيي وتضطر
يـكـفيك أن عـدانـا أهـدروا دمـنا*ونـحن مـن دمـنا نـحسو ونـحتلب