نحن في الكريفات الآن

قصة إنسانية يكتبها / نجم المريري   تصوير / حمزة مصطفى 

نحن في الكريفات الآن، المنطقة مسيجة بثياب من ماتوا وبأشياء أخرى والكثير من الأغطية التي تحجب رؤيتنا..

كل شيء هنا يمارس بخشوع ونشوة كما لو أنه سيمارس للمرة الأخيرة وعلى محمل الفراق الحديث، الأكل، الشهيق، التمرد، التدين، الحب، الجنس، النوم، النهب، القتل.. كل شيء له مراسيم الوداع، إمعانه، تدقيقه وانكساره.

يجب أن تعيش عمرك كله في ساعة واحدة ويوم واحد، يوم يكرر نفسه منذ أربعة أعوام.

الحياة تؤخذ كجرعة أخيرة وصادقة.

من تعمقهم في الصدق الجميع هنا يحفظ كل شيء، يحفظ الرجال عدد فقرات العمود الفقري لزوجاتهم ، هن أيضا يحفظن عدد أزرار قمصانهم، يحفظ الشباب أيضا أرقام هواتف بعضهم، كل التفاصيل الصغيرة هنا محفوظة بدقة وتمحيص عال عدا التواريخ اليومية، حنين المواسم، مواعيد المطر، مواسم الحصاد.. كل ما يتجاوز عمره الساعة يُنسى ويتوجب نسيانه.

قبل أن تغادر منزلك اصطحب أشياؤك معك كعرق زوجتك، دمغات أحمر شفاهها على ياقتك، عضاتها، صور أطفالك، بطاقتك الشخصية، مدون عليها رقم أسرتك وكل شيء يدل على أنك أنت....!!

المكان مخيف جدا، تشعر معه أنك وحيد في العراء، سماؤك تضيق حتى تصبح بحجم عدسة قناصة ونحوك تمتد ماسورتها ولا أفق سوى بعض الحواجز المقامة من"طرابيل، جواني القمح، قطع حديدية، بقايا سيارات محترقة، وكل ما هو عدمي ويكفي لحجب رؤية القناص وعين القناصة(رصاصتها).

في طريقنا إليها صادفتنا امرأة كهلة، تبدو في العقد السابع من العمر أو الثامن إن اخطأتها رصاصة قناص، هنا في إحدى طرق الكريفات، على يدها صرة قالت أنها تحوي علفا وعراجين روتية: "علف للغنم وروتي وبعض الماء، قدني تاعب يا ابني الله لا وريك هذا التعب.. تقول كم شكون بن؟!ا".

تلفظ كلماتها كما لو أنها تلفظ موتا مؤجلا، موتا أوكل مهمته لقناص.

عندما سألتها إلى أين تتجه أخبرتني أنها عائدة لمنزلها وأنها تخرج كل ثلاث أيام ما إن تنهي الغنم أعلافها لجلب المزيد.

ساعة حذرية تفصلها عن المنزل، يمتد الزمن ويطول كزمبورك  حين يكون الطريق معبدا بالموت وذكرى أناس مروا من هنا دون عودة أبدية.

سألها صديقي: ألا يخيفكم القناص؟!

أجابت: تعودنا يا ابني وشابعين حياة ، كم طفل وحرمة ورجل قتلهم القناص هنا ونحن نبصرهم ونموت معهم كل يوم".

الرصاصة التي لا تصبك، تصبك في شخص آخر، في أقرب الناس لك.

قبل أن تنهي جملتها، قبل أن ننجر منحسرين بذراع الوجع الذي يشدنا إلى الخلف فنولي جافلين، رأيتها، وقفت بجسد مشدود، التجاعيد التي تخوضها أخذت في التلاشي، رفعت نظرها متفرسة بشيء ما في البعيد ويبدو لي في قمة الجبل الموازي ثم طوحت بيدها الهواء باعثة بتحية ساخرة لمجهول هناك ثم ولت طريقها...!!

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص