الصراع المذهبي ومصائر النساء في رواية “نهاية رجل غاضب”

 
 
محمد الغربي عمران
 
يغترفُ الكاتب بسام شمس الدين من البيئة اليمنية مواضيع رواياته الشيّقة… رواية بعد أخرى، مغرقًا في رسم شخصياته بطبائعها ومعتقداتها وخرافات مجتمعها ليمنحها قُربًا وحيوية من وجدان القارئ.
في روايته “نهاية رجل غاضب”، الصادرة في صنعاء حديثًا، يصطحبُ قارئه إلى عمق بيئة موحشة، فما أنْ يبدأ القارئ قراءة أولى صفحاتها حتى ينخرط وسط أناس يجزم أنه يعرفهم أو صادفهم ويصادفهم كلّ يوم في أرياف صنعاء وإب… بسهولة يُبْحِرُ دون عقبات البدايات، كما في بعض الروايات.
غرائبية البيئة
يجدُ القارئ نفسه في منطقة القفر الأسفل، إذ يبدأ الصبي “زيد” حكايته من نهايتها، صبيّ لم يتجاوز الرابعة عشر من العمر، يتحدث بلغة أكبر من عمره، بل وفصيحة، تاركًا بذور الحيرة، وقد حمل كيسًا أبيضَ عائدًا من قفار بعيدة إلى أمه: “ثم صعَدنا إلى المقعد الخلفي للسيارة، وأنا ممسكٌ بالكيس الأبيض الذي يحوي بقايا جسد أبي!”، لتنمو أسئلة القارئ حول ذلك الكيس وما يحتويه… ثم يأخذ زيد بوصف تلك البيئة والحياة النائية، وحياة أسرة عمته “فوزية” وأفراد أسرتها: “هند” ابنتها الصغيرة – سبع سنوات، الذي يتعلق زيد بها، ويعمل على إقناع عمّته باصطحابها لتعيش معه في بيتهم بالقفر الأعلى، حيث توجد مدرسة، وابنها “مالك” الذي يقتربُ عمره من العشرين.. مشيرًا إلى أنّ عمته قد تزوجت قبل عشرين سنة بشاب رغْم رفْض أسرتها له… لتنتقل معه بعيدًا عن غضب أسرتها، واصفًا تلك البيئة المُجْدِبة التي تعيش فيها عمته… ليرحل برفقة مالك وقد اقتنعت عمته باصطحابه هند.. ما أنْ يصلَ إلى قريته بعد رحلة شاقة.. ويلتقي بأمه وجدّه الطاعن في السِّن، حتى يعود بالقارئ إلى الأمس القريب.
تظَل التساؤلات تتكاثر وقد انتهج الكاتب تقنية بذرَها في عقل القارئ… ليعود بنا إلى بداية الحكاية، إلى ليلة حلم والده “جعفر” بأخته التي تأتيه في الحلم، وتدعوه لزيارتها بصحبة أصغر أولاده “زيد”، وتخبره أيضًا بأنها مريضة.. جعفر اعتبر ذلك الحلم رسالة سماوية، وعليه تنفيذها.. بداية لجأ لاستشارة جدّه “سراج الدين”، الولي الراقد في قبره منذ عقود؛ لتأتيه الإشارة بتلبية دعوة أخته التي فرّت خوفًا من بطشه حين أرادت زوجًا ليس من مرتبتهم الاجتماعية، هنا يعرِف القارئ أنّ والدها الذي لا يزال يعيش لم يعترض على رغبتها، مشترطًا أن تذهب ومَن اختارته ليعيشا في القفر الأسفل، حيث لا تصله أخبارهما، لتبدأ الرحلة على ظهر حمار… يستغرقُ الكاتب أكثر من ثلاثة أرباع الرواية في وصف تلك البيئة الموحشة والمخاطر التي واجهت جعفر وابنه زيد.. تصلُ إلى حافة الغرائبية، فيصادفون بشرًا يقودهم مشعوذ أعمى ويحكُمهم، إلى تجمّع آخر لِبشر يقضون لياليهم في قرع الطبول والرقص (ذكورًا وإناثًا)، إلى اختراق تضاريس تسكنه قطعان القرود، وصف بيئة يتصارع فيها البشر والقرود، فلا تحميهم طلقات الرصاص.. صراع ليلي مُخيف.. تستغرقُ تلك الرحلة أكثر من أسبوع.. يدرك المتلقّي قدرة الكاتب على تخيّل ما لا يمكن توقّعه… يسير جعفر أمام ابنه زيد عاريًا تمامًا بعد صراعه مع القرود… يكاد الموت يدركهم لشدة الجوع والعطش والإعياء، وما خلّفته تلك المعركة الليلية من جراح غطّت جسديهما، ليهتديا إلى كوخ وحيد وسط برّية قاحلة، ذلك الكوخ هو كوخ فوزية وأسرتها.. يقضيان أيامًا في ضيافتها وابنتها هند… يستعيدان صحتهما أثناء ذلك، تعرفُ بأنّ ذلك ما هو إلا جعفر أخوها.. وذلك الصبي الذي لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره ما هو إلى ابن أخيها.. وخوفًا من بطشه وقد عرفت بأنه يبحث عنها لغرض في نفسه.. أخفت سرّها ليغادرها بحثًا عنها، وهنا تنتهي الرواية بمقتل الأب بسُمِّ حيّة وتأكله الضِّباع، ويعود زيد مستنجدًا، ويصادف عودة زوج فوزية وابنها مالك على سيارتهما، وبعد أيام ذهبا لبيع محصول نحلهما من العسل.
المذهبية
يوظّف الكاتب معضلة ما تُسبِّبه المذهبية في تفتيت أواصر المحبة والسلام بين أفراد المجتمع الواحد؛ إذ يسلط الضوء على بيئة طاردة.. تسيطر على مجتمعها الخرافات والعقائد المضلِّلة، كما يبرز خطرها من خلال عراك دار بين جعفر وقَيّم مسجد في قرية نائية، حين أراد جعفر المبيت في المسجد؛ لينهض قيّم المسجد زاجرًا له، ليس لشيء، إلا لأنه لاحظ جعفر أثناء الصلاة يسبل يديه… معتبرًا ذلك خروجًا عن الدين، وهكذا في أكثر مِن موضع نجدُ أنّ جعفر يصطدم بأناس لا يقيمون الصلوات ليدخل معهم في جدال عقيم، بل وفي شجار، ناعتًا إياهم بالمخالفين، بل ويعتبِرُ مَن صادف وجوده في ضيافتهم يُحيون ليلهم بالرقص والمغنى ارتدادًا عن الدين.. ولم يكتفِ الكاتب بالصراع بين أتباع المذاهب، بل تصل إلى درجة المشاجرة والعِداء، بل والتكفير، بل ذهب إلى فرز أفراد ذلك المجتمع إلى فقهاء واصفين أنفسهم بحرّاس تعاليم الدين القويم، مؤمنين بمباركة الله لهم ولحياتهم، واصفين مَن يُتوفّى منهم وليًّا من أولياء الله، يتبرك الناس به، ويتقربون إلى الله من خلال تبجيله وتعظيمه.
يمكن أنْ نُطلِق على “نهاية رجل غاضب” رواية وصفية بامتياز.. ليس ذلك الوصف المنفصل عن تنامي الأحداث، ذلك الذي يبعث على الملل، بل الوصف المتداخل مع الأحداث في نسيج مدهش
الجانب الفني
الكاتب استخدم تقنية بذر التساؤلات؛ بداية بذلك الكيس الذي يحمله الراوي “زيد” لبقايا عظام والده “جعفر”، ثم زواج عمته “فوزية” دون رضا الأب.. واختفاؤها عن الأنظار منذ عشرين سنة… وتساؤلات أخرى أحسنَ الكاتب حبْك الأحداث دون إفصاح عن أجوبة مباشرة، تاركًا للقارئ مهمة البحث عن أجوبة.. هنا يُجيدُ الكاتب القفز من النهاية إلى البداية؛ ليحكي زيْد بشكلٍ مشوّق ما يقودنا إلى الأجوبة، لكن الكاتب يسير في أحداث الرواية، وكلّما ظنّ القارئ بأنه وصل، يجد الأمر ما يزال… وهكذا حتى النهاية لتتكشف المسائل.
الوصف
يمكن أنْ نُطلِق على “نهاية رجل غاضب” رواية وصفية بامتياز، ليس ذلك الوصف المنفصل عن تنامي الأحداث، ذلك الذي يبعث على المَلل، بل الوصف المتداخل مع الأحداث في نسيج مدهِش؛ إذ يطوف الكاتب بنا في قفار نتمنى لو تعرفّنا عليها وعشناها، لكن هيهات فهي تقبع في مخيلته… وما يقع على أرض المكان بيئة أقل إدهاشًا مما وصفه.. الوصف دقيق ومثير؛ إذ أنّ بيئة الرواية التي تعيش فيها تلك الشخصيات فيها من الواقع المعاش القليل، خاصة ما يتعلق بتلك التعاملات والعقائد والأعراف، التي يضيف إليها الكاتب من خياله الخصب ما يُذهل ويدفع المتلقّي إلى أنْ يضيفَ من خياله ما يزيد… غِدران الماء، قطعان القرود.. المنازل المعلقة فوق المدرّجات.
المرأة
كما يلاحَظ أنّ المرأة في هذه الرواية غير مستكينة رغم الأغلال الدينية والأعراف الاجتماعية… إلا أننا نجدُ تلك الفتاة وقد تزوجت بمن اختارت، بل وقبِلت قرار والدها بالنفي بعيدًا، ولم تتردد… لتكون أسرة تبدو من وصف الكاتب بقيم وعلاقات ووعي جديد، وكذلك زوجة جعفر… وتلك المرأة السوداء.. وفتيات يراقصن الرجال من أبناء قريتهن في بهجة لا تقلّ عن بهجة الرجال.
رسْم الشخصيات
تفنّنَ الكاتب في تقريب تلك الشخصيات بدءًا مِن زيد إلى جدّه، ومِن جعفر إلى تلك الشخصيات التي رسمها الكاتب ليقرّبها من ذائقة المتلقّي بشكلٍ سلِس؛ فجعفر نكتشف نهايته بتلك المرتبطة بعنوان الرواية… وذلك النزق المصاحب له وكأنه النزق بذاته، وتلك الكبرياء الزائفة.
اللغة
تعمّدَ أنْ تأتي بلغة فصحى، وهو ما قد يقعُ معها القارئ في ارتباك حين يجد مجتمع الرواية يتحاورون بمفاهيم متقدِّمة، حتى الصبيّ زيد والطفلة هند… إلا أنّ الكاتب تعمّدَ ذلك، إضافة إلى تلك الجُرأة التي تحلّى بها زيد في حواراته مع أبيه أثناء الرحلة إلى القفر الأسفل.
الزمن
لم يتجاوز الأسبوعين، لكنه حمَل لنا أحداثًا اجتماعية ودينية وأسطورية، كما هي من صميم المجتمع… أبطال ذلك الزمن (امرأة، وصبِيّ، ورجل)، إضافة إلى شخصيات ثانوية أخرى وظّفها الكاتب بدراية، ممسِكًا بخيوط مصائرها حتى النهاية.
لوحة الغلاف
العنوان جاء يحملُ روح العمل، معبّرًا عن إحدى شخصيات الرواية جعفر.. هو الغلاف الذي يجسّدُ شخصية الراوي “زيد”، صبِيّ يتكئ بذقنه على يده اليسرى.. مرسِلاً ناظرَيْه بعيدًا، نظرات تشِي بالتعجب الممزوج بالحيرة والتأمل.. أصاب الكاتب في اختيار تلك اللوحة للتشكيلي المتميز “هشام عبدالحميد العلفي”، أما الغلاف الأخير فجاء أكثر غموضًا؛ إذ يقفُ شخص ما دون ملامح، متّكئًا على خلفيةِ أُفُقِ الشفق، ثم سماء تُغطّيها أسراب طيور سوداء.. ذلك ما يوحي بسوداوية أحداث الرواية… نفي فوزية من قِبَل أبيها ليس لِشيء إلا لِأنها اختارت شخصًا شريكًا لحياتها.. نهاية شقيقها جعفر بين أسنان الضِّبَاع.. مجتمع غارق بالجهل والخرافة… تلك اللوحة معبِّرَة عن جوهر الرواية.. رواية ممتعة: أحداثًا، ووصفًا، وحوارات، ورسم شخصيات تبعثُ على الدهشة.
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص