للكتابة السردية أسرارها مثلها مثل غيرها من الفنون الأدبية الأخرى، لا يستطيع سبر أغوارها، أو الإلمام بمكنوناتها المتعددة والمتجددة على الدوام إلا مبدع موهوب وسارد محترف.. والقاص عبد الواحد السامعي واحد من هؤلاء السراد الذين شغلتهم الكتابة عما دونها حتى تحولوا إلى نساك في محرابها، لاهم لديهم سوى الفوز برضاها...لكشف هذه الخصوصية التقينا القاص عبدالواحد السامعي فكانت تفاصيل الحوار في السطور التالية..
- للسرد ماهيته الخاصة التي قد تتلاقى أو تتقاطع مع الشعر فما هي نقاط التلاقي والاختلاف إن وجدت ؟
- لم يعد هناك ما يمكن أن نسميه تقاطعا أو اختلافا _ كما أظن بين السرد والشعر خصوصا بعد أن تم ردم "الفجوة الأذنية" الملتبسة كإيقاع صوتي وموسيقا خارجية اختص بها الشعر لزمن ، أو كاعتبارات سجعية، سطحية اللغة ،اعتمدتها المقامة.. الآن صار ممكنا كتابة القصيدة النثرية والأقصودة ، وأمكن تفجير اللغة في قالب مشترك ، يحدث صخبا ودهشة لدى المتلقي..ليس بالضرورة أن تبقى المعلقة سيدة الشعر ولا المقامة درة السرد ، وطوال الرحلة الزمنية لثنائية الشعر والسرد رافقها تنويع في أدوات التعبير شكلا ومضمونا ، والتي جاءت نتاجا طبيعيا معبرا عن الحالة الإبداعية للمنجز الأدبي شعرا ونثرا ، وفقا لمعطيات الذاتية والإرث الحضاري .. وعلى ذلك فإن معطيات ك" تسرب التاريخ وتدفقه على راهن مغاير كليا ، إضافة لحدوث انزياحات حضارية أزاحت البداوة والصحراء ، مقابل إفساح المجال لتمدد المدنية و الحضور المكثف للحداثة "...تلك المعطيات أدت لتغيير في الذائقة ، وبالتالي فرضت على الكاتب تطوير أدواته ، و قادته لابتداع أساليب وقوالب إبداعية، تتكيف مع حاضره، وتتناسب مع المستوى الثقافي للمتلقي الذي صار مفتونا بالصورة و جماليات النص، ولم يعد يغريه الجرس الخارجي أو يطربه البناء السجعي المخاتل للأذن وحدها، وغير العابئ بالحواس الأخرى للمتلقي...
كان الشعراء والمقاميون "كتّاب النثر" يميلون قديما النغم الموسيقي لأنهم يدركون بأن بضاعتهم لابد أن تكون سماعية طالما ومجتمعهم أمي _في الغالب_ بينما أدرك المعاصرون تغير القواعد، وأن تداخل الشعر بالسرد، والعكس، إنما جاء خلاصة إرهاصات قادت ،في النهاية ، إلى تعالقهما، وتركيز الخطاب في الداخل "المستوى اللغوي"، وبأدوات أكثر حدة: لغة مركزة، وغير مباشرة، تحفل بإيحاءات ومدلولات متعددة، تتواءم مع المتلقي بمستوياته الثقافية المتباينة، وتمنحه فسحة لتأويل النص بقراءات عدة ،مع الاستعاضة عن ضجيج الموسيقا الخارجية بموسيقا اللفظ، والانشغال بتفاصيل أدق، رغم زعمي بأن السرد أكثر خصوصية في اقتحام أدق التفاصيل الإنسانية، و التعبير عنها دونما قيود مكبلة.
- القاص عيون كثيرة تلتقط الهام والهامشي مع التركيز على الهامشي.. كيف يلتقط عبد الواحد السامعي هذه الأشياء؟
- الهامش والبسيط وما يتعلق بالتفاصيل الجزئية هو كل شيء بالنسبة للسرد ، فالعقدة والبؤرة هما نتاج هذه التفاصيل التي تشكل عالما هاما من عوالم الشخصية في القصة.. السرد في القصة القصيرة يرمي بكل ثقله على اللغة المركزة والحدث الذي تسوقه تداعيات تكون في معظمها بسيطة لكن مؤثرة في بناء الشخصية والحدث .
- بعد ما يقارب السبعين عاما من البدايات الأولى للقصة القصيرة اليمنية.. إلى أين وصلت؟ وكيف تنظر إلى مستقبلها ؟
- مرور الأعوام بسرعة ليس معيارا على ارتقاء أو جمود وانحدار في أي جنس أدبي، فالمعيار يكون بمواكبة أدوات أدنى ،تسهم في رمي الراكد بأحجار تحركه، وما أقصده بالضبط هو وجود حركة ناشرة لمعظم المسرودات التي تنام في أدراج كتابها، وسيواكب ذلك قراءات يتولد منها فضاء نقدي يفعل الحركة ويوصل لجديد ما يمكن أن نراه منجزا، ليستطيع أن يتجاوز إلى الإقليمي والإنساني .
- لكل قاص أسلوبه في الكتابة يمتاز بها عن غيره.. فبماذا يمتاز أسلوبك ؟ وماهي العوامل التي تميز أسلوبا عن غيره ؟
- البنية السردية هي في الأساس لغة واحدة وسارد مفصلي بينهما يحاول أن ينتج ويشخص ما يتواءم مع نفسيته. والنفس ،كما تعلم، لا تقف عند نسق حياتي رتيب ،إنما تتشظى جدلا تحكمه محاوراتها مع واقع متغير أيضاً الأمر الذي حتم على السرد أن يبدي مرونة مع نفس منفعلة ومتوجسة ومستوحشة وساقطة في أحيان كثيرة. ربما هذا ما يميز قاصا عن آخر ومسرودا عن آخر حتى عند القاص نفسه ، إضافة إلى عوامل تتصل بالقراءة لمختلف المسرودات التي تشكل في معظمها مخزونا إنسانيا لدى المبدع تدهشه وتحرضه لاستكشاف مخبوءات داخلية يقذفها في وجه القارئ .
- ارتبط السرد بالإنسان منذ نشأته لكنه ازداد ارتباطا بالإنسان الحديث على عكس الإنسان البدائي.. فما هث برأيك الأسباب أم أنه _ أي السرد_ كان نتاجا للتطور الذي صاحب الإنسان ؟
- الإنسان بطبعه كائن سارد وإن اختلفت أدوات السرد لديه باختلاف ملكاته وتصوراته ومؤثراته المجتمعية _ زمانية كانت أم مكانية _ فقبلا لم يكن ليدون هذا السرد لأن ثقافة المجتمع كانت تعتمد المشافهة التي هي سرد ناضج اتبع فيها الإضافة والحذف وفقا لرؤية الراوي " السارد " الذهنية..وعليه فإننا نستطيع القول إن المجتمع البدائي أو الزراعي _ كما أسلفت_ كان مجتمعا ساردا بامتياز، غير أن التدوين الكتابي هو الذي أجبره على الجلوس في الهامش خاصة ونحن نعيش في مجتمع راهن لايعتد إلا بالمنجز المكتوب.. واسمح لي أن أجاهر بسؤال مقلق ومحير وهو على صلة بالأمر هل معنى هذا أن الآلة والحاسوب يمكن أن ترمي بالمنجز الإنساني الكتابي عموما كما فعل هو أمام المنجز البدائي "الشفاهي " ليصبح الإنسان _ مستقبلا_ إنسان الآلة، يفكر بالآلة، ويكتب تاريخه بالآلة أيضاً ؟!!!
- ماهي أسباب تهميش بعض المبدعين بينما يتم تلميع البعض الآخر ؟
- هناك أسباب عديدة لذلك منها ما يتعلق بالعلاقات الشخصية بين المبدع والإعلامي أو المبدع والناقد، ومنها ما يرتبط بعلاقة شللية أو جغرافية مرهونة بالمكان لا النص ، بالإضافة لعديد أسباب أخرى تسهم في تلميع من توافرت لهذه الظروف دون اللجوء لآليات وأدوات يعرفها الناقد تماماً ، مهمتها قراءة النص وتذوقه أولاً ، ومن ثم تحليله وتفكيكه بمهنية وحيادية ضمن اتجاه و رؤية نقدية محددة، ودون الاحتكام لمنهجية نقدية فإننا نؤسس لإنتاج مشهد إبداعي ضبابي هش ، قائم على المحسوبية والشخصنة والشللية وربما القرابة الأيديولوجية التي تضيف سوداوية للمشهد المجتمعي الذي نحياه دون اختياراتنا.
- متى تشعر أنك بحاجة للكتابة ؟
- الحاجة للكتابة حالة ملحة تفرضها ديمومتك مع الحياة، كما تفرضها عليك احتياجات أخرى ، كالماء ، والهواء، والمرأة، هي تقريبا ولادة أخرى ووجود آخر يضاف لمادية الجسد لديك..باختصار تصبح الكتابة محاولة إفراغ حسي تتوازى مع إفراغ الجسد الشهواني، والإحساس بالحاجة إليها يمر عبر دفقات يومية كثيرة ، لكن المنجز منها لا يصبح كذلك إلا بتواطؤ تسوقه لي ظروفي اليومية المتخمة بتفاصيل سخيفة مليئة بمتناقضات ضدية تصدمني بمطالبها الاعتيادية اليومية بالكتابة،و رغم جنونية الراهن فإن استراق لحظات قصيرة منه تمثل اقتصاصا جميلا يسمو بك ويعزز إنسانيتك المطلقة أمام واقع أليم ذي تفاصيل وعلائق جامدة.
- كلمة أخيرة تود قولها في ختام هذا الحوار؟
- ما أود قوله إن الأدب نتاج معرفي وراوٍ تاريخي صادق يؤثر ويتأثر بالواقع المعاش ، فمتى ما كان الفرد يحس بنشوة الحركة وبفاعلية دوره في مجتمع مفتوح أمام الجميع، كلّ يؤدي فيه دوره بمنتهى ما يجد من لذة فإن الأدب يحاكي تلك اللذة، ويكتب بمنتهى ما لديه، أما إذا كان في مجتمع فوضوي بمسألة الفكر ولا بعدالة المساواة وحرية الإبداع فإنه ينتج حالة مأزومة وأدبا مغتصبا.