الاستبداد.. ودوافع الإلحاد!
2020/06/17 - الساعة 06:24 مساءاً
خرجت الشعوب الأوروبية على كهنوت الكنيسة بشقيها الأرثوذكسي والبروتستانتي وكهَّانها البائسين، عندما احتدم الصراع بينهم كمذاهب وجَرَّتْ الشعوب بعدها إلى حرب طاحنة منها الحرب الثلاثين عاما الشهيرة (1618-1648م) التي سحقت أوروبا شعوباً علوماً وحضارة وتحولت بعدها إلى صراعٍ سياسي حاد، ثم انثنت -أي الكنيسة- إلى محاربة العلم وأعدمت الفلاسفة وأنكرت استعمال العقل في تفسير ظواهر الكون والطبيعة حتى لا يتكشف زيف وخرافات سلطانها الديني العقيم، ودعمت استبداد الحكام الذين تدثروا بسلطانها، مما دفع بالكثيرين من سكان تلك الدول إلى الإلحاد وتمردوا على خرافاتها وكفروا بالمسيحية برمتها، ولم تتعافَ شعوب أوروبا إلا عندما أقصتها في زاوية اللاهوت وفصلتها عن إدارة الدولة والتدخل في حرية العلم والإبداع والمجتمع.
ما نراه اليوم في كثير من البلدان العربية يبدو أنه يسلك مسلك أوروبا في أزمانها الغابرة، إذ تخوض حرباً ضروساً ضد رايات الاستبداد الديني المتعددة، رايات بألوان مختلفة، كلاً يدعي بالحق الإلهي لنفسه ويسل سيفه لينشر الرعب بين المسلمين، والكل يرجع إلى التراث الديني المليء بالأحاديث الضعيفة والموضوعة والمؤولة واجتزاء آيات من القرآن الكريم وتفسيرها وفقاً لهواه ومبتغاه.
مفارقات عجيبة حيرت الشباب للأسف ودفعت البعض منهم إلى الردة والتمرد على الدين لأن قيم الدولة المدنية المتمثلة بالحرية والمساواة وإعمال العقل وتطبيق القانون ومبادئ الديموقراطية، أصبحت مقصدهم وبالغ مبتغاهم للخلاص، شباب اليمن الذين امتلكوا ، مالم يمتلكه أباءهم، من الأدوات العلمية والمعرفية وإجادة اللغات والمهارات في شتى العلوم، يستحيل أن يسيروا ويقبلوا بما قبله الأولون، وقد باتت القوانين والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الانسان وتحريم التميز العنصري هي الحاكمة والمتحكمة بمصائر مستقبل الأمم والشعوب، فكيف نلوم شباب مقيد بمفاهيم دينية لم تعد صالحة اليوم، فُرضت عليهم دون تمحيص وعمق قراءة وفقاً لمقتضيات العصر وتحولاته المبهرة ؟ كيف نلوم تمردهم في زمن بات العاقل فيه حيران، ومن يتحمل مسؤولية ذلك التمرد؟.
تلاشت المفاهيم وتمرد الناس على واقعهم عندما أصبح الاستبداد معتقداً دينياً يتقرب بأدائه الإنسان إلى الله، ويعتقد أن رضى جلاده وحارس سجونه من رضى الله، حلت هنا الكارثة بكل أبعادها الإنسانية والدينية على الشعوب جماعات وأفراد، وأصبح الإنسان عبارة عن أكتاف تحمل أدوات الموت وأداةً لقتل أخيه الإنسان، يجثو على ركبتيه مقبلاً أقدام المستبد ويمرغ شفتيه في باطن كلتا يديه، لأن العبودية الروحية والعاطفة الدينية أصبحتا قيوداً في رقاب المستعبدين تقودهم دون علم منهم إلى حتفهم وإلى حيث لا يعلمون، وهنا يطغى الاستبداد وتتغول في أجسامهم أنيابه وأظافره.
قد يتحمل الإنسان ألوان شظف العيش عدا الاستبداد بكل أشكاله لا تستسيغه الفطرة الإنسانية السليمة ولا النخوة وأبجديات الرجولة، أُمِر الإنسان بحرب الاستبداد والتمرد عليه في أرضه وأينما حَلْ، وإن لم فعليه الخروج إلى أرض الله الواسعة، كما حث الله سبحانه وتعالى الانسان على مغادرة القرية الظالم أهلها في "الآية 97 من سورة النساء" وذلك لأن مبادئ الحرية من قواعد الدين الأصيلة، وحرم الله الظلم على نفسه ومن ثم جعله بين عباده محرما في حديث رواه أبو ذر الغفاري عن الرسول (ص) عن ربه قال " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا" الحديث، إذن الدفاع عن الحرية والبحث عن كريم العيش بشتى الطرق المتاحة قولاً وفعل واحب وحق لا يجوز التنازل عنه تحت أي ظرف.
وفضلاً عن وجوب محاربة الإنسان الحر المسلم للظلم كيف له أن يكون أداة بأيدي الطغاة، يفرضون به طغيانهم على الخلق أينما كانوا، على اعتبار أن الظلم لن يصل إليهم ولن يطالهم، بل الحقائق التاريخية تؤكد أن المستبد أول ما يبدأ به قبل تثبيت عرشه هو التخلص من الروافع والأدوات التي صَعَّدتهُ فتكون ذلك أول خطوة في طريق الاستبداد، لأنهم يصبحون مِنَّةً وعبئاً ثقيلاً عليه يمنون عليه ويفرضون إرادتهم على تحركاته ولا تخل ساحته إلا بخلوها منهم.
إنّ عواقب الاستبداد كارثية على كل مناحي الحياة سواءً وقعت على الفرد أم الجماعة، وتنعكس كصيرورة تاريخية على المستبدين وأعوانهم، فيعم الضنك وتضيق المعايش وتصادر الحريات فلا تقوم للشعوب بعدها قائمة، أمم كُثُر أصابها الظلم والاستبداد بالشلل المجتمعي التام ومنها الأمة اليمنية بسبب انسياق مفرغي العقول وراء المستبدين والقتال تحت راياتهم، وقد قالوا قديماً إن الله ينصر دولة العدل ولو كانت كافرة ولا ينصر دولة الظلم ولو كانت مسلمة.
والحقيقة المستدامة والمستغربة التي لم يستوعبها العقل حتى اليوم هي أن الناس لم تعِ وتستوعب أن بوائق الاستبداد لا تستثني أحد حتى من المستبدين أو المستبد بهم، فيقعون في خزيه وجحيمه داخرين، وسجلات التاريخ قديمها والمعاصر منها تعج بذكرياتهم المؤلمة وما أكثر المستبدين الذين ثارت عليهم وعلى أعوانهم الشعوب وحين سقطوا تحول الزمّارون عنهم وسقطت قصورهم وحل فيها بها من دونهم آخرون، "فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ"؟!
إضافة تعليق