في القرن 6 م بنيت كنيسة آيا صوفيا في اسطنبول التي كانت عاصمة الدولة البيزنطية طيلة عدة قرون، ومنذ هذا التاريخ كانت لها رمزية في الدين المسيحي بوصفها معبد الإمبراطور البيزنطي والكنيسة الرسمية والكبرى للدولة، وظلت على هذا الوضع حتى سقوط القسطنطينية على يد السلطان محمد خان العثماني الشهير بالفاتح في القرن 15 م، بعدها تحولت إلى مسجد لأكثر من 4 قرون متصلة حتى سقوط الدولة العثمانية أوائل القرن 20 م فقرر الزعيم "كمال أتاتورك" تحويل المسجد إلى متحف ليصبح شاهدا على تلاقح الأديان والثقافات والتبرؤ مما فعله العثمانيون الأوائل باغتصاب معابد الخصوم..
تحول مختصر قوامه الأول (البقاء للأقوى) فمثلما تحولت الكنيسة إلى جامع في ظل الحرب، تحولت أيضا إلى متحف بعد صراع سياسي عنيف، بالضبط كما تحولت قبة الصخرة إلى كنيسة في القرن 12م إبان الحروب الصليبية ، ثم عادت إلى وضعها الأول كمسجد بعد اندحار الغزاه الصليبيين، وكما أن إسم "قبة الصخرة" ذو مدلول إسلامي يشير إلى صخرة المعراج فإسم "آيا صوفيا" ذو مدلول مسيحي يشير للحكمة المقدسة، وكما أن مسجد الصخرة يرأسه مسلمون فلسطينيون فآيا صوفيا يرأسه يونان أرثوذكس لا زالت قيادته في بطريركية اليونان وروسيا بوصفهم ورثة الدين الأرثوذكسي بعد سقوط الدولة البيزنطية..
آيا صوفيا من الداخل تجمع بين الثقافتين المسيحية والإسلامية فلا زالت الفسيفساء البيزنطية والرسوم المسيحية تزين جدران المبنى وفي ذات الوقت تملأه الخطوط العربية الإسلامية القديمة في اختلاط بديع بين الدينين الإسلامي والمسيحي، ولأن هذا الاختلاط له فوائدة في حرص الأتراك على بقاءه كمبنى يمثل وحدة وسلام الأديان وعدم تكرار جرائم الماضي السحيق فالحكومات العلمانية التركية المتصلة لم تقترب منه بوصفه ليس مجرد مبنى بل رسالة ثقافية وحضارية وسياحية للأتراك إلى كل شعوب العالم خصوصا المسيحي منه الذي ما زال يتعلق بآيا صوفيا لكونها مهد وعاصمة الدولة البيزنطية كأشهر وأقوى كيان سياسي مسيحي في التاريخ الإنساني ككل.
إنما هذا التنوع الديني والسلام العقائدي لم يُعجب حكومة تركيا الحالية التي يغلب عليها السلوك الديني الطائفي، فقررت استدعاء جرائم التاريخ كحجة لديها بتحويل الكنيسة إلى مسجد مرة أخرى بعد إبطاله على يد المؤسس، وصدّرت خطابا سياسيا معاديا للمسيحيين في التذكير بجرائمهم في تحويل مساجد أسبانيا إلى كنائس، مثلما فعل حزب الرفاه الإسلامي سنة 1995 م بنفس الأمر وهو الدعوة إلى تحويل آيا صوفيا لمسجد كان وقتها أردوجان سياسيا صغيرا يتعلم من أستاذه أربكان، وكذلك نادى به "عدنان مندريس" في الخمسينات حسب الجهادي السابق عبدالله عزام في كتابيه "التآمر العالمي" صـ 119 و "المنارة المفقودة" صـ 38 كمطلب إسلامي ظل ومحور فكر الجهاديين في استعادة الخلافة من علمانيي تركيا،..ولو فردنا الأمر على اتساعه فيجب أن نحاكم بنفس الأسلوب مسلمي مصر الأوائل حين قرروا تحويل كنائس مصر إلى مساجد..ولما الحاجة إلى ذلك بعد تجاوزه تاريخيا واعتباره جريمة عقائدية ميزت القرون الوسطى من جهل وعدوانية وطائفية وتوسع امبراطوريات على أساس ديني كما حدث مع الأمويين والعباسيين قديما، ثم العثمانيين والصفويين والقياصرة الروس حديثا..
فيصبح ما فعله أردوجان حجة لليمين المسيحي في العالم بتحويل المساجد إلى كنائس وتصديرهم لخطاب كراهية ضد المسلمين كما فعل الأتراك في حدث لم يتوقعه أكثر المتشائمين في القرن العشرين بعد أن سارع المثقفون في التبشير بعصر الحريات والعقل وإذ بالبشرية تعود "للخلف در" كأننا ما زلنا نعيش في القرون الوسطى بكل معالمها الثقافية.
لا أقول بضرورة عودة آيا صوفيا إلى وضعها الأول ككنيسة فالدولة البيزنطية انتهت والوجود المسيحي في تركيا شبه معدوم، فدلالات بقاء هذا المبنى إذن قد تجاوزت معنى بنائها الأول تاريخيا وعليه فلم تعد هناك مصلحة للعالم في ذلك، إنما أقول بضرورة أن تظل آيا صوفيا كمتحف يشهد على تلاقح الحضارات ثقافيا ودليلا على تسامح تركيا مع المسيحيين، ولو جاز لي القول بأن يتحول المسجد الأموي في دمشق لمتحف على نفس المنوال لقلت لكن سوريا لم يهبها زعيما مثل أتاتورك ليعيد التسامح الديني والمصالحة مع الغرب إلى وضعها المفترض، لكن الجامع الأموي وأي مسجد بني على أنقاض كنيسة والعكس صحيح أي كل كنيسة بنيت على أنقاض مساجد يجب أن لا تغادر قصصها جرائم التاريخ وأن نعتبر ذلك فتحا دينيا مبينا وانتصارا سياسيا على أحجار نعرف جميعا أنها ليست مجرد حجر بل رموز دينية تمس المشاعر، وما فعله الأتراك اليوم مؤكد أنه يجرح شعور 2 مليار مسيحي في العالم يرون أن ما حدث هو إعلان كراهية إسلامي يلزمه رد فوري أخشى أن نراه.
وأما مزاعم بيع المسيحيين لآيا صوفيا فهي سخيفة ومبتدعة لا أساس تاريخي لها، فهي عِوَضا على غيابها عن النخبة الإسلامية كفقهاء ومؤرخين لم يعرفوها في معرض إثبات حقهم في المبنى هي تتجاهل حقيقة أن البيع والشراء الشرعي يحدث في ظل أجواء حرية وسلام..لا في أجواء حرب وقتل، وفي التاريخ أن آيا صوفيا تحوّلت لمسجد فور دخول السلطان العثماني للقسطنطينية فيكون تحوّلها تحت ظلال السيوف ينزع الرغبة في الاعتراض من المهزوم، وكأنه تشريع لسلب ممتلكات الناس بالقوة عن طريق التهديد والوعيد ثم الحصول على صك براءة منهم بالبيع لاحقا..وكأن الشيوخ الذين يرفعون هذه الحجة يُشرّعون بناء إسرائيل لهيكل سليمان في القدس مكان الأقصى بدعوى بيع الفلسطينيين للأرض – وهي شهيرة وإن لم تحقق تاريخيا كما يكفي .
ويشهد الشيخ محمد الغزالي على طريقة سيطرة السلطان العثماني العنيفة على آيا صوفيا في معرض الاستنكار، إذ قال " محمد الفاتح عندما دخل القسطنطينية، حول كنيستها الكبرى (أيا صوفيا) إلى مسجد جامع. وقد يعتذر البعض للسلطان التركي بأن مسلكه كان على مبدإ المعاملة بالمثل. ولسنا بصدد مناقشة هذه السياسة. ولكنا نريد أن نؤكد الحقيقة التي نقررها هنا: وهي أن العرب وحدهم هم بيئة القيادة الصحيحة للمسلمين"..(الخديعة صـ 17) والغزالي يبدو أنه يعترض على طريقة معاملة العثمانيين لآيا صوفيا إذا سبقه جملة مدح لخلفاء العرب " وأنت تعرف أن عمر لما فتح بيت المقدس أبى أن يصلي في كنيستها مخافة أن يتخذ المسلمون مصلاه مسجدًا" (نفس المصدر)
ويكرر الغزالي استنكاره على العثمانيين في كتاب آخر إذ قال " يوجد تساؤل في تحويل كنيسة "أيا صوفيا" إلى مسجد: هل هذا تقليد إسلامى!؟ إن عمر بن الخطاب استبقى الكنيسة لأصحابها. وعندما عرض عليه رئيسها أن يصلى بها وقد أدركه الوقت رفض! وقال: يجيئ المسلمين فيقولون: هنا صلّى عمر، ويتخذون الموضع مسجدا!! إنه رفض الصلاة محافظة على بقاء الكنيسة للنصارى"..(جهاد الدعوة صـ 55) ثم أتبعه تبريرا للفعل العثماني بدعوى جرائم خصوم الإسلام حسب الشيخ، وكأن الغزالي هنا يجتهد في درء تهمة العداء للخلافة عند تلاميذه فهو يحتار بين نقد سلوك العثمانيين في آيا صوفيا وبين تبرير ما فعله السلطان..
وفي نفس السياق يشرح الكاتب علي طنطاوي في مجلة الرسالة الإسلامية كيف أن آيا صوفيا فُتحت بجماجم المسلمين وسيوف الغزاه الأبطال، وأن القضاء على كنيسة بيزنطة كان حُلما إسلاميا منذ عهد معاوية واستبدال أوثانها بالتوحيد..وصلبانها بالأذان وصيحات التكبير ، وفي نفس المجلة يشرح الدكتور عبدالوهاب عزام تقريظ الشاعر محمد إقبال كيف أن الحلفاء في الحرب العالمية الأولى كانوا يريدون تحويل آيا صوفيا لكنيسة بعد سيطرتهم على الآستانة وهزيمة الدولة العثمانية، فلو كان هناك بيعا شرعيا كما يزعم الشيوخ والجماعات الآن فلماذا يفكر الحلفاء في عودة آيا صوفيا كما كانت ، وبكلام عزام يظهر لنا دافعا من دوافع أتاتورك في تحويل آيا صوفيا لمتحف أنه إجراء لم يكن ثقافيا وإصلاحيا بشكل كلي كما نظن ، بل فيه لمحة سياسية للتقارب مع الحلفاء والخضوع لهم بعد هزيمة الجيش التركي في الحرب.
وقد وقفت على فقرة من فقرات كتاب " من روائع حضارتنا" لمؤسس إخوان سوريا "مصطفى السباعي" يطرح فيه كيفية دخول السلطان العثماني آيا صوفيا بطريقة سلمية، وبدون الشك أو تحليل كلام السباعي لارتباطة بالدعايا البيضاء للخلافة، لكن يلحظ منها غياب تام لقصة شراء الكنيسة أو قبول مسيحيين بيزنطة بيعها، وإليكم النص بالكامل:
"لما فتح السلطان محمد الثاني القسطنطينية، دخل إلى كنيسة آيا صوفيا، وكان قد لجأ إليها رجال الكنيسة، فأحسن استقبالهم وأكد حمايته لهم، وطلب من المسيحيين الفزعين الموجودين فيها أن يذهبوا إلى بيوتهم آمنين. ثم نظم شؤون المسيحيين، فترك لهم حق اتباع كنائسهم الخاصة، وقوانينهم المالية، وتقاليدهم المتعلقة بأحوالهم الشخصية. وترك للقساوسة انتخاب بطريرك لهم، فانتخبوا (جناديوس) واحتفل السلطان بانتخابه بنفس الأبهة التي كانت متبعة في عهد البيزنطيين، وقال له: لتكن بطريركاً على صداقتي في كل وقت وظرف، ولتتمتع بكل الحقوق والامتيازات التي كانت لمن سبقك. ثم أهداه فرساً جميلاً، وجعل له حرساً خاصاً من الإنكشارية (وهم حرس السلطان الخاص) وصحبه (باشاوات) الدولة إلى المكان الذي أعد له، ثم أعلن السلطان الفاتح اعترافه بقوانين الكنيسة الأرثوذكسية، ووضعها تحت رعايته، وجمعت واشتريت كل آثار القديسيين ومخلفاتهم التي نهبت يوم الفتح، وسلمت إلى الكنائس والأديرة" (ج 4 صـ 10)
وهنا نسأل من يروّج بروباجاندا الأتراك في شرائهم آيا صوفيا بطريقة شرعية لماذا حرص الحلفاء الأوربيون على دخول آيا صوفيا وإعادتها لكنيسة ؟ وكيف غابت عملية البيع عن مؤرخي ومثقفي الإخوان والجماعات في السابق؟ علما بأن السباعي لم يشرح كيف تحولت آيا صوفيا لمسجد لأن الدخول في تلك الكيفية ضد موضوع كتابه وهو "تلميع الخلافة" وتصدير الجزء الأبيض من التاريخ ولو كان كاذبا أو عديم المصدر، والشيخ الغزالي الذي عرف عنه الاطلاع وكثرة التصنيف لم يعرف قصة الشراء بل انتقد العثمانيين في تحويل الكنيسة لمسجد بمخالفة صريحة للإسلام وسلوك الصحابة حسب قوله، وماذا كتب وول ديورانت صاحب قصة الحضارة عن آيا صوفيا وسيطر عليها الخليفة التركي.
ولحسم هذه المسألة نهائيا أعرض شهادة د علي الصلابي على طريقة تحويل آيا صوفيا لمسجد وهو من أشهر مؤرخي الإخوان، إذ قال " وقد أمر الفاتح بعد ذلك بتحويل الكنيسة – آيا صوفيا -الى مسجد وأن يعد لهذا الأمر حتى تقام بها أول جمعة قادمة، وقد أخذ العمال يعدون لهذا الأمر ، فأزالوا الصلبان والتماثيل وطمسوا الصور بطبقة من الجير وعملوا منبراً للخطيب، وقد يجوز تحويل الكنيسة الى المسجد لأن البلد فتحت عنوة والعنوة لها حكمها في الشريعة الاسلامية" ..(تاريخ الدولة العثمانية 1/ 146)
وبعيدا عن التحليل السياسي للمسألة التي يمكن اختصارها في وضع خطوط تركية للعلاقة مع الغرب واليونان وبلغاريا ودول البلقان بوصفهم ورثة تلك الكنيسة تاريخيا ، وتزامن القرار مع صراعات تركية على أكثر من جبهة في سوريا وليبيا والخليج وربما قريبا اليمن والقرن الأفريقي..إنما أرى أن هذا الجانب السياسي له جذور في ثقافة الإسلاميين التي لا زالت تبشر بالفتح الإسلامي الآخر للأندلس كمثال وعن قرب تحرير المسجد الأقصى وغيرها من الشعارات، ويبدو أن شخصية أردوجان وسياساته متوافقة مع هذا المنحى السياسي ، ففي إعلانه عن قرار تحويل الكنيسة لمسجد أرفقها ببشارة قرب تحرير الأقصى..ولا أعلم كيف يحرره في ظل تطبيع العلاقات بين تركيا وإسرائيل ، وتبادل تجاري كبير وعلاقات دبلوماسية وعسكرية كبيرة مما يعطي إشارة إلى أن تصريح الرئيس التركي هو مجرد استهلاك لحشد القطيع الديني العربي والإسلامي لمشروعه السياسي في الشرق الأوسط..
في المقابل لا يجب أن نفصل بين التصعيد التركي دينيا ضد المسيحيين الآن وبين اتفاقية الدفاع المشترك بين سوريا وإيران منذ أيام وقرار طهران بتزويد سوريا بوسائل دفاع جوي متطورة لرد العدوان الإسرائيلي عليها في تجاوز صريح للفيتو الروسي الذي أوقف استخدام صواريخ إس 300 ضد إسرائيل وتركيا خشية تضرر علاقات بوتين مع الدولتين، إنما دخول إيران هنا بتزويد دمشق بالسلاح سيتجاوز رغبة أردوجان في إضعاف الجيش السوري جويا لضمان أن تبقى إدلب منطقة سورية موالية له قد تنضم لاحقا للدولة التركية على غرار لواء الإسكندرون، فيكون القرار الإيراني ليس موجها فقط ضد إسرائيل ولكن ضد تركيا أيضا لوقف أحلام أردوجان باستدعاء خلافته العثمانية التي كانت وتظل أعدى خصوم الشعب الإيراني في التاريخ وبينهما عشرات المعارك بطبيعة مذهبية..
وقد تعمدت وصف هذا الفعل التركي ب "التصعيد الديني" لترافقه مع رمزيات حربية دينية حصلت في القرون الوسطى بعد سيطرة العثمانيين على القسطنطينية، فطوال الفترة التي ظلت فيها آيا صوفيا مسجدا كانت هناك حروب دينية بين الترك والمسيحيين لم تتوقف ختمها العثمانيون بمجازر السريان والأرمن والآشوريين مطلع القرن 20 م ومجازر أخرى ضد اليونان وشعوب البلقان في القرنين 18 و19 م، مما يعني أن تحويل المبنى لمسجد يعيده إلى طبيعته الحربية الدينية التي ظل عليها طيلة 4 قرون متصلة، وقد يتصادم ذلك مع الثقافة الغربية العلمانية التي من أهم معالمها عدم التعلق بالمعابد وتناول الدين كثقافة وشعور قلبي وسلوكي واجتماعي، مما يعني أن فكرة أن يؤدي العمل التركي لصراع ديني مع أوروبا هي ضعيفة لهجر الأوربيين للنسخة المسيحية القديمة قبل ظهور العلمانية وشيوعها كثقافة..
ونفس الشئ في الداخل التركي الذي لا زالت صحافته تتناول آيا صوفيا في جزء كبير منها كمتحف مهم للسياحة ورمزية حضارية لتركيا ومصدر دخل للاقتصاد يصل ل 3 مليار دولار سنويا بمفرده وهو دخل يفوق دخل المتحف المصري كمثال، مما يعني أن قرار أردوجان - الذي بشر به قبل سنوات – موجه لحشد المحافظين والقوميين الترك ضد هؤلاء، في مقابل خصومه من المعارضة الذين ينتقدون سياسات الحكومة في ليبيا بالخصوص، وبالتالي نحن أمام فعل سياسي بمظهر ديني بمعالم انتخابية كالعادة يلجأ إليه الحكام في الأزمات وفي أحوال منها ما يميز سياسة تركيا الحالية بالتوسع ودعم جماعات وحكومات ذات طابع ديني محافظ مقابل جماعات ودول وأنظمة قدمت نفسها كعدوّ للإسلام السياسي ممثلا في جماعة الإخوان المسلمين.
إن القرار التركي في الأخير هو انقلاب على سياسات أتاتورك في الحياد بين صراع الأديان، وهو جوهر العلمانية الثقافي ألا تنحاز دينيا في صراع حربي وسياسي، وأن أمور الحكم أساسها المصالح..فكما قرر أتاتورك تحويل آيا صوفيا لمتحف حوّل أيضا دار الإفتاء التركية ومركز شيخ الإسلام إلى مدرسة للبنات يتعلم فيها الإناث ما حُرِموا منه في العهد العثماني، حتى أن تحويل شياخة الإسلام لمركز تعليم البنات أدى لاحقا لسلسلة قوانين إصلاحية لتحرير المرأة التركية فصدرت قرارات في حقها بالتصويت الانتخابي والترشح وخلافه، مما يعني أن أردوجان قد يكمل سلسلة انقلاباته على إصلاحات أتاتورك ويعيد المرأة التركية للبيت..وهذا ليس مستغربا على قائد يحشد شعبه دينيا ضد المخالف بينما مركزية المرأة في التراث الذي يعتمد عليه رديئة ولا وجود تاريخي للمرأة في الحكم العثماني سوى بتدبير المكائد والانقلابات لأجل أزواجهم وأولادهم..
وبكل الأحوال فتركيا ليست بحاجة إلى مساجد ، وتحويل آيا صوفيا لن يجعل الأتراك أكثر إيمانا وتقوى، وتظل هذه الأفعال دليلا على مراهقة الحكام وعدوانيتهم في السطو على ممتلكات الغير، ويستوي ذلك ما فعله الأسبان في السطو على المساجد والعرب في مصر بالسطو على الكنائس والمسيحيون القبط في السطو على معابد مصر القديمة..وهلم جرا، إنما الذي يجب الانتباه إليه دائما أن استعادة تلك الجرائم والأخطاء بدعوى المحاسبة والانتقام هو اتجاه أصولي مشبع بالدونية والإقصاء للآخر، ولا أستبعد أن يلغي أردوجان وفرقته الجمهورية بتركيا قريبا ويعلنوها دولة دينية في أي وقت، فما يدفع زعيما للانقلاب على توجهات المؤسس العلمانية جزئيا سيدفعه للانقلاب بشكل كلي..أما قدرته على تحقيق ذلك فهي محل شك وكلي ثقة بأن الأتراك لديهم من الوعي في تجاوز تلك المرحلة دون خسائر وأن يوقفوا أحلام العثمانيين الجدد في استدعاء الماضي أو نشر الكراهية الدينية ومسارعتهم في صدام الحضارات..
العثمانيون وخطايا التاريخ في آيا صوفيا
2020/07/13 - الساعة 05:33 مساءاً
إضافة تعليق