ما إنْ صفت اليمن للأئمة من «آل القاسم»، وخلت من مُعارضيهم، حتى طغى «حُكم الإقطاع»، وُزعت البلاد بين الأمراء الطامِحين، وإذا ما مات أحد أئمتهم، تشبث الواحد منهم بما تحت يديه، الأمير القوي يتمدد، والضعيف ينكمش، تلاشت حينها الاستدلالات التي تؤكد أحقيتهم في الحكم، وغُيبت شروط الإمامة التي وضعها الجد المؤسس، وتحولت الإمامة من دولة دينية إلى مملكة إقطاعية يَحكُمها الأكثر طغيانًا.
في «8 جمادي الآخر 1087هـ / 17 أغسطس 1676م»، وبعد ثلاثة أيام من وفاة «المـُـتوكل» إسماعيل، أعلن من الغراس أحمد بن الحسن بن القاسم نفسه إمامًا، وتلقب بـ «المهدي»، ليعارضه أخوه الحسين من ذمار، مُتلقبًا بـ «الواثق»، والقاسم بن «المؤيد» محمد من شهارة، مُتلقبًا بـ «المنصور»، فيما استمر «المنصور» علي بن أحمد في دعوته من صعدة.
ومن غير الأسرة القاسمية أعلن أحمد بن إبراهيم المؤيدي من العشة، وعلي بن الحسين الشامي من خولان، وعبدالقادر شرف الدين من كوكبان، ومحمد بن علي الغرباني من برط أنفسهم أئمة، كان الأخير من أكبر مُعارضي «آل القاسم»، وسبق وأنْ عارض «المـُـتوكل» إسماعيل «1075هـ»، وكتب فيه وأبناء إخوته عدة رسائل ناقدة، قال في إحداها شعرًا:
ومثل ما يفعل نجل الحسن
في اليمن الأسفل من أرض اليمن
من حيل للمال سرًا وعلن
كثيرة تجري على غير سنن
لا حق ما تؤتي بلا أثمان
عمَّت الفوضى البلاد، وشاع السلب والنهب وقطع الطرق، وفي ذلك قال «أبو طالب»: «وانتهب أصحاب مولانا علي بن المـُـتوكل سوق جبلة، وتكاثرت الدعاة سيما بالقبلة، وانقطعت الطريق ما بين إب وجبلة إلى سمارة، وأكثر كل من يتعاطى الأمر بجهته الغارات»، فيما قال صاحب «الجامع الوجيز»: «واتفق استيلاء أولاد السيد عبدالله بن الإمام على قصر ذمار، وانتهاب ما فيه، ووقعت فتنة بين أصحاب الحسن المؤيدي، والسيد جعفر الجرموزي بضوران، كما قامت فتنة أخرى بصعدة».
حين بلغ الصراع بين أولئك الأدعياء مداه، تنحى كلٌ من «الواثق» الحسين، و«المنصور» علي لـ «المهدي» أحمد, فيما تنحى «المؤيدي» لـ «المنصور» القاسم، أما «الغرباني» فـ «تارة يبايع، وتارة يظهر بقاءه على دعوته»، حد توصيف العلامة الشوكاني، وقيل أنَّه توجه – فيما بعد – إلى مكة المكرمة، وادعى من هناك أنَّه «المهدي المنتظر».
اللافت في الأمر أنَّ الأمير محمد بن أحمد بن الحسن حاكم الحجرية – «صاحب المواهب» لاحقًا – وقف ضد أبيه مُساندًا لـ «المنصور» القاسم، وجه «المهدي» أحمد ولده عليًا لمحاربته، إلا أنَّ الأخير توفي في يفرس قبل أنْ يكمل مهمته، فيما استمر محمد رافعًا راية العصيان، مُتحصنًا في قلعة المنصورة.
«المنصور» القاسم هو الآخر بقي مُتحصنًا بشهارة، مُتمسكًا بالإمامة، ولم يتنازل عنها إلا مُجبرًا «صفر 1088هـ / إبريل 1677م»؛ بعد أنْ قاد «المهدي» أحمد نحوه أكثر من «7,000» مُقاتل، وفتك بعد حروب وخطوب بالكثير من أنصاره، ودمر قرى عديدة، وأتلف مزارع كثيرة، ليجعله بعد ذلك حاكمـًا على ما كان تحت يديه من مناطق، وكذلك فعل مع ابن عمه علي بن أحمد في صعدة، وولده العاق محمد بالحجرية، مُضيفًا للأخير بلاد حيس، مُثبتًا بذلك حُكم أمراء الإقطاع.
رغم أنَّه لم يستوفِ شروطها، حاز «المهدي» أحمد الإمامة بالقوة، وقد نقل صاحب «أنباء الزمن» عمن بايعوه قولهم: «ما بايعناه إلا حسبة لا إمامة»؛ بل أنَّه ولقلة علمه في أمور الدين كان يعتمد على النجوم في أسفاره، ويرجع إلى سؤال المـُنجمين في غالبية أحواله، وقيل أنَّه كان مزواجًا، وأنَّه كان لديه من «400» إلى «700» جارية.
وذكر صاحب «بغية المريد» أنَّ عددا من العلماء انكروا عليه ما بيده من أموال عند بيعته، فأبرز لهم مرقومًا بختم عمه «المـُـتوكل» إسماعيل فيه وهب بجميع الأموال التي غنمها من الأمير الحسين بن عبدالقادر، وخاطبهم بالقول: «وكل ما ترونه بيدي، وأتقلب فيه من نعمة المال، هي من تلك الغنائم التي غنمناها نحن والمجاهدون من أموال ذلك الأمير وأصحابه، الذين تعتقدونهم عاطلي المذهب، أما أنا فأعتقدهم من كفار التأويل».
كان للحسين بن عبدالقادر الجرهمي أموال كثيرة سبق وأخذها من أحد الأمراء الهنود المسلمين الذين لجأوا إلى والده في العام «1046هـ»، وكان الأمير الهندي الممباسي – نسبة إلى إمارة «مومباسا» الواقعة على ساحل كينيا – قبل لجوئه ذاك – هروبًا من المتمردين المسيحيين – قد طلب المساعدة من الأمير الحسن بن القاسم، إلا أن انشغال الأخير بحروبه مع الأتراك حال دون ذلك، استقر الأمير الهارب في عدن ومعه أمواله وخدمه، وتوفي بعد أربع سنوات أثناء عودته من الحج؛ فما كان من حاكم عدن الجديد إلا أنْ صادر أمواله، وحبس عبيده، وقتل بعضهم.
أورد بعض المؤرخين ذلك كسبب لتوجه الأمير أحمد بن الحسن لمحاربة الحسين بن عبدالقادر «1055هـ»، ليفرج بعد انتصاره عليه عن الأسرى الهنود، وأرسلهم إلى مدينة تعز ليقيموا فيها، وقد كانت وفاة الجرهمي في العام «1068هـ»، وهو مواليًا وواليًا لـ «الدولة القاسمية» على بلاده.