لكل أمة رموزها الوطنية والتاريخية، فلاسفتها، ملهمي ثوراتها ورواد تحولاتها الفكرية والابداعية. تتغنى بهم الأجيال وتحكي ذكراهم تنشد شعرهم وتعُبُ إبداعاتهم، وتجعل منهم أعلاماً للهدى وجسوراً للعبور وأمثلة للتضحية والصبر والمعرفة. غير أن ذلك لم يكن ذو حضورٍ واهتمامٍ كبير لدى الشعب اليمني لأسباب مختلفة لعل اهمها المحو الكهنوتي الإمامي المتعمد لتاريخ وأدوار أعلام اليمن الوطنية والفكرية اضافةً للجهل السياسي والبعد المجتمعي عن تلك الحقائق.
انبثقت تجارب تلك الشخصيات سياسيةً كانت فلسفيةً أو أدبيةً، من ظروفها الزمانية والمكانية فأثّرت عليها سلباً وإيجاباً، لأنها التزمت قضاياها بعيداً عن حب الذات والشعور بالأنا، وإن بدا توجه بعضها دينياً أو أدبياً لكن جوهرها ظل وطنياً بامتياز، كنشوان بن سعيد الحميري ورفاقه الذين واجهوا فِريات وجحافل الإمامة ذات الطابع المذهبي الجهنمي المتوحش بصبرٍ واقتدار.
تنقل نشوان في حواضر اليمن مجاهراً بدعوته التصحيحية وباحثاً عن داعمٍ معنوي أو نُصرةٌ مادية لمواجهة تلك المغاشم، لأن مشروعه لم يحفه هواً فردياً لخدمة الذات، وإنما كان تجسيداً للقوة الكامنة في أعماق الشعب اليمني التي كانت تبحث دوماً عن ثقب في سطوح بركانها للثورة والانفجار في وجوه كهنة الدجل التاريخي ومدارس التجهيل والتجويع والسحق والاقتتال.
غاب الإعلام المحلي بعد الثورة عن تبني إبداعات الأعلام الوطنية والفكرية شعراً وتاريخاً وفقهاً فلسفة وجهاد، بل تعرض الكثير منهم إلى التشوية والغمز واللمز من قبل الحاقدين المختبئين في صفوف الثورة والتكفير والتفسيق المتقدم من قبل أفاعي الإمامة. فتناغم التشوية المتعمد لرموز اليمن الجامعة مع طموحات عودة حكم الإمامة، حيث تلاقت الطبقات الكهنوتية والقبلية مع أهداف بعض الحركات الدينية التقليدية المهيمنة على الإعلام والمؤسسات الثقافية والبحثية بعد ثورة أيلول سبتمبر 62، فكان ذلك إجهاضاً لاستمرارية زخم التحرر الوطني من كهنوت الماضي بكل أشكاله والوانه ومجافاة صريحة لطموحات الشعب الذي كان ولازال بحاجة إلى ثورةٍ تحرريةٍ شاملة ترتقي به عمودياً وأفقياً عبر نشر وتعزيز ثقافة وطنية مستلهمةً من آفاق الشخصيات الوطنية الأصيلةَ منها والمعاصرة، ويُسرّع في تحرر العقل اليمني من كل المعوقات السياسية الاجتماعية والوطنية.
فكان أسهل أسلوب لتقزيم تلك القامات والتقليل من شأنها تحقيقاً لرغائب المتوردين وأزلامهم، هو انتزاعهم من قلوب اليمنيين فعزلتهم عن ظروفهم السياسية الاجتماعية والتاريخية وصلاتهم بقادتهم الأوائل، عبر أنماط تقليدية كرست العزلة والتدجين، وتجاهل ما نُسميه نهجاً موضوعياً للدراسة والبحث والتوثيق المعزز بمناهج بحث علمية حديثة من قبل بعض حكام ما بعد الإمامة، فظهرت تلك الرموز باديها وحاضرها معزولةً قسراً ومنعزلةً طوعاً عن مجتمعاتها التي أحبتها حباً يتيماً يملأه الحسرة الحزن.
ولعل ما أورد الأستاذ عادل الأحمدي في مقاله "المقالح والدعيس ونشوان: ثلاثية الوهج" عن عمالقة الحركة الوطنية الدكتور المقالح والشيخ حسن الدعيس كان دعوةً وإبداعاً فريداً وإيقاظاً نشطاً لأهمية التوثيق لرموز الحركات الوطنية والثورية وإحياءاً لذكراهم، كرموز وأعلام وطنية تستقي الأجيال منهم الفكر الوطني وتخطو على خطاهم في محاربة الكهنوت والجهل بكل اشكاله وألوانه.
أيقظ كتابه ما غفى عندي بعد طول احتراق هماً وأسئلةً عن غياب الاهتمام المستحق برموز اليمن ثوريةً وعلمية كانت أم أدبية عسكرية وتاريخية برغم تصدر اليمنيون أسفار التاريخ نضالاً وإبداعاً وعلماً عرفتهم الأمم الأخرى ولم تعرفهم اليمن بدايةً من نبي الله هود علية السلام الجد الأول لليمنين وابنه قحطان مروراً برمز الشعر الجاهلي ومؤسسه الأول امرؤ القيس الكِندي مروراً بشاعر الرسول الأول حسان بن ثابت والشاعر الأفوه الأودي وعلماء الدين وأئمة المذاهب وقادة العسكرية المحترفين في الفتوحات الاسلامية قيس بن مكشوح المرادي وعبدالرحمن بن الأشعث معد بن يكرب الزبيدي.
ولعبت القبائل اليمنية من كل اليمن أدواراً مفصلية في مرحلة الفتوحات الاسلامية وشاركت ضد حروب الردة وتثبيت دعائم الاسلام دولاً وحكام، وفي معركة القادسية كان لهم النصيب الأوفر من الضفر بالنصر، فبلغوا في حروبهم جنوب فرنسا حيث حاول القائد اليمني الشهير السمح بن مالك الخولاني فتهحا غير أنه استشهد في معركة تولوز ولحقه في نفس المعركة القائد اليمني الشهير عبدالرحمن الغافقي الذي استشهد في معركة بلاط الشهداء، وحميد بن معيوف الخولاني الذي غزا جزيرة كريت أو إقريطش اليونانية المطلة على بحر إيجه، وكان صالح بن منصور الحميري الفاتح الأول سِلماً لجغرافيا الأمازيغ المغربية حيث نشر الإسلام فيها دون حرب ودخل بسببه الناس في دين الله أفواجا.
كما تولى الكثير من قادة اليمن الولايات خارج اليمن أولهم تولي ربيع بن زيادة الحارثي خُراسان في العهد الأموي وآخرهم معاوية بن حديج التجيبي الذي تولى إمارة مصر وبرقة. واستوطن اليمنيون الأرض شرقاً وغرب من الأندلس حتى خراسان وبخارى وبلدان السند والهند كما استوطنوا منطقة الجيزة في مصر بعد أن أجازهم عمر بن الخطاب في عبور النهر إلى غربيه في بعد اشتراكهم في فتوحات النوبة .
وصولاً إلى رموز اليمن في تاريخه الحديث إعلام الشعر والأدب والثورة البردوني والزبيري والمقالح وغيرهم من معالم النضال السبتمبري السلال النعمان وعبدالرقيب عبدالوهاب وأحمد عبدربه العواضي، حسن الدعيس، والاكتوبري علي عنتر وصالح مصلح وسالم ربيع علي، عبدالفتاح اسماعيل وعلي البيض وعبود الشرعبي، وداعمي الثورة مادياً أحمد عبدالولي ناشر وعبدالغني مطهر وعبدالله الحكيمي وغيرهم الكثير أنفقوا بسخاء حتى أفلست خزائنهم غير أنهم ربحوا الوطن برغم تجاهلهم وتناسي دورهم.
قطرة من بحر أُلقيها في عيون الباحثين علها تشدهم صوب كنوزهم التاريخية الوطنية بحثاً وإحياءً لنجومٍ ساهمت في تشكيل الوجدان الوطني وتعزيزًا للهوية الوطنية وتعميقاً لقيم وروح الانتماء واليمنية فينا..
تاريخٌ باذخ بدءاً من بناء الدول والحضارات والدعم والنجدات والمشاركة في الفتوحات والتمرد على الظلم والثورات غير أن سبب تراجع اليمن الحضاري وقبولهم لغزو المتوردين وطغيانهم منذ مجيء يحي الرسي وانتهاءً بالحوثي، وسبب تراجع الدور الحضاري لليمن في عهود الإمامة في تقديري هو انشغالهم في حروب الفتوحات الاسلامية التي استنزفت خزان اليمن البشري قادة وأجناد منهم من استشهد في ساحات الجهاد ومنهم من عاش وحل حيث وصلت به رواحله والأرض التي طاب بها مقامة.