بيروت وانفجار العصر
2020/09/02 - الساعة 10:39 صباحاً
عبد الباري طاهر*
في الرابع من أغسطس نشأ حريق في مرفأ بيروت سرعان ما تحول إلى انفجار هائل دمر المرفأ تمامًا، وأخرب نصف بيروت، وامتد الدمار إلى أحياء كثيرة من بيروت الغربية؛ فهدم كليًّا أو جزئيًّا آلاف المنازل، وقتل المئات، وجرح الآلاف، وهناك أكثر من عشرين مفقودًا، وآلاف المشردين.
يجري البحث عن الأسباب، وعن وجود فاعل، وهل يكون خارجيًّا – إسرائيل – مثلاً، أو داخليًّا؟ للتغطية على جريمة أخرى.
وبغضّ النظر عن الأسئلة التي قد يكون بعضها أو حتى كلها جائزًا، فإنّ من المؤكد أنّ وجود ما يقرب من ثلاثة آلاف طن من مادة «نترات الأمونيوم» مخزّنة في المرفأ لِأكثر من ستة أعوام – هو أساس الجريمة التي لا بُدّ أنْ يُساءل عنها النظام المتعاقب، وجهات الاختصاص تحديدًا.
بعيدًا عن عقلية المؤامرة، وذهنية الكيد والانتقام، والبحث عن ضحايا، فإن المسؤولين الحاليين والذين تعاقبوا على الحكم أثناء تخزين هذه المادة الخطرة كلهم مساءلون. فجريمة بهذا المستوى وبهذه النتائج الكارثية يصعب – إنْ لم يكُن مستحيلًا – التلاعب في نتائجها، أو توظيفها في الصراع الكالح في لبنان.
إن المردود الكارثي لا يقف عند تخوم المسؤولين المباشرين أو الحاليين، وإنما سوف يمتد؛ ليطال طبيعة النظام المتوارث منذ فجر الأربعينيات وحتى اليوم. شرعية النظام المتآكلة منذ زمن ليس بالقصير مساءلة عمّا حصل.
خرج الشعب من مختلف الطوائف والمناطق يهتفُ في الـ17 من أكتوبر: “كلهن يعني كلهن”؛ فأصم زعماء الطوائف آذانهم وكأن لا شيء، وقامت بتكريس اللون الواحد في حكومة السيد حسان دياب، لكن الانفجار المدمِّر أعلن مدى كارثية استمرار الحكم الطائفي، وأنه- أي الانفجار – شاهد فشل التقاسم الطائفي، والاحتكام إلى الغلبة والقوة في حكم بلد متنوع ومتعدد منذ فجر التاريخ.
خاضت بلاد الشام كفاحًا داميًا ضد الإقطاعي العثماني لأربعة قرون غرس فيها هذا الحكم العنف، وأجج الصراعات المذهبية والتتريك؛ وهو ما دفع بلاد الشام، ومنها لبنان، إلى المقاومة المتواصلة، وبروز النهج القومي والإحياء العربي نثرًا وقصة ومعاجم، وتيارات فكرية وسياسية مرده – في جانب مهم منه – إلى مواجهة نهج التمذهب والتتريك، ولم يكن النضال ضد الاستعمار الفرنسي أقل ضراوة منه ضد النير التركي.
في العام 1919 وضعت فرنسا بلاد الشام: سوريا، ولبنان تحت الانتداب الفرنسي. قوبل الانتداب – منذ الوهلة الأولى – بسلسلة من الثورات الدامية، وحُكم بالإعدام على كثير من الثوار، وكان النفي والعقاب الجماعي نهج الاستعمار الفرنسي، ولكن المقاومة في كل بلاد الشام ظلت متواصلة.
في الحرب العالمية الثانية خاض اللبنانيون معارك ضارية، وقاموا بهبّات وثورات متتالية. وفي نوفمبر 1941 أعلنت حكومة فرنسا الحرة استقلال لبنان، وانتهاء الانتداب.
ظل دستور العام 1926، والذي صيغ في عهد الانتداب هو المعمول به، وإنْ دخلت عليه تعديلات عديدة. الحكم القائم على تقاسم الطوائف ثمرة لهذا الدستور؛ فللموارنة الرئاسة، وللسُّنة رئاسة الوزراء، وللشيعة مجلس النواب، ورغم التعديلات الكبيرة إلا أنّ الطوائف ظلت متمسكة بهذا النظام، وحريصة على ديمومته.
حلّت أسر محل أسر في زعامة الطائفة، وضعفت طوائف، وقويت أخرى، ويبقى التقسيم الطائفي هو هو. والمفارَقة الراعبة أنّ هذه الطوائف – أقصد زعاماتها – تتعادى وتتناحر حتى الاقتتال، ويتآمرون على بعضهم ولا يتبدل هذا التقاسم، والذي يمتد إلى الوظيفة العامة ومفاصل الحكم.
مِحنة لبنان معقدة ومتشابكة وطويلة الأمد، ومواجهتها ليست بالسهلة؛ فالطائفية متجذرة ومشرعنة في الدستور والحياة العامة كأمر واقع.
وجود إسرائيل في الجوار يشكّل عائقًا من أهم عوائق التغيير؛ فالمطامع الإسرائيلية لإقامة كيان في الشريط الحدودي، وتهديدها المستمر يحُدّ من القدرة على التغيير؛ فمواجهة الخطر الإسرائيلي يتصدر المشهد، كما أنّ الجوار الخطر سوريا، والنفوذ السعودي والإيراني يسهم في استمرار تسيّد الطوائف، وتعميق الصراعات الطائفية.
مراعاة التوازنات الطائفية ظلت سائدة باستثناءات قليلة. صعود حزب الله مطلع الثمانينيات – كحركة تحرير وطني في مواجهة إسرائيل بعد انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية – أبهت الصراع الطائفي، ودفع بالحزب إلى الصدارة.
تَغَلُّب الطبيعة الطائفية للحزب كتركيبته الشيعية، والارتباط بالنظام السوري، والارتهان لإيران – سحبته إلى الداخل اللبناني؛ لا ليصبح أساسًا في الصراع الطائفي، وإنما الطرف الأقوى والحارس.
يواجه اللبنانيون صراعات شديدة الخطورة والتعقيد؛ فالإسرائيليون لا يزالون في مزارع شبعا، ويمثّلون تهديدًا مستمرًّا في الجنوب، والنظام الطائفي استنزف لبنان، وأغرقه في الفساد والاستبداد؛ بحيث لم يعد قادرًا على البقاء في الحكم؛ بسبب صراعاته المميتة وعجزه والرفض الشعبي له.
ثورة الربيع العربية والتي اجتاحت المنطقة، وبالأخص سوريا، تأثيرها كبير على لبنان، وحزب الله طرف في الصراع في سوريا. النظام في سوريا حاليًّا يخوض معركة ضد تفكيك سوريا بعد أنْ تمكن هو والأطراف المعادية من عسكرة الانتفاضة، وإخماد ثورة الربيع العربي.
مأساة الحكم العربي أنه بفساده وطغيانه زيّن الاستعمار في عيون مواطنيه – ضحايا الاستعمار بالأمس القريب.
يُستقبل الرئيس الفرنسي في لبنان، ويرى فيه اللبنانيون رجل إنقاذ من الحكم الطائفي الذي دمر لبنان ونهب ثرواته، وتسبب في كارثة من أكبر كوارث العصر، ولا يزال مصرًّا على الحكم بالطائفية وبالغلبة والسلاح.
ماكرون رئيس دولة الانتداب صانعة العرف الدستوري الطائفي يبرز كمنقذ؛ فظلم ذوي القربى أشد مضاضة كحكمة الشاعر الجاهلي.
يسمي اللبنانيون انتفاضة 14 مارس 2005 بانتفاضة الاستقلال، وهي للخلاص من الوجود السوري، وهي انتفاضة ربيع عربي بامتياز شارك فيها الطّيف المجتمعي اللبناني التواق للخلاص من الحكم الطائفي الذي أرسته فرنسا، ودعمه الأسد.
حلّت قوة حزب الله محل القوة السورية، وأصبحت دولة داخل الدولة، ومارست أساليب قمعية وشمولية حماية للنهج الطائفي وأساليبه المقيتة.
تكونت ثورة الشباب 17 أكتوبر 2019 من مختلف المنابع الاجتماعية ضدًّا على استمرار النهج الطائفي مطالبة بالتغيير الشامل، وضد النهج والزعامات الحزبية التي شيدت منذ ما بعد الاستقلال، وغرقت في الفساد، وأعاقت بناء لبنان الديمقراطي.
نهج الانتفاضة اللبنانية يصبّ في مجرى ثورة الربيع العربي، وهي الأسلوب أو الطريق المؤدي إلى الاستقلال من تركة الاستعمار الفرنسي، والوجود السوري، والاحتلال الصهيوني، والتركة الطائفية السياسية والدينية وتحالفاتها الأخطبوطية، وتؤشر على استمرار الانتفاضة الشعبية التي عمّت المنطقة العربية.
ما أطال أمد الحكم هو الفرز والتصارع الطائفي الذي يشوّه الصراع الاجتماعي، ويزيّف الوعي. استمرت الحرب الأهلية ستة عشر عامًا، من العام 75 وحتى العام 90، قُتِل خلالها مئة وعشرون ألفًا، وفي تفجير المرفأ قُتل خلال دقائق ما يزيد عن مئتين، والجرحى أكثر من ستة آلاف، والمشردون ثلاثة آلاف، والخسائر بالمليارات، ومع ذلك، فالنظام الطائفي الذي لم يعد قادرًا على شيء غير التدمير والقتل مصر على التأبيد
إضافة تعليق