كان رجل دولة!
2020/09/10 - الساعة 03:33 مساءاً
* محمد فائد البكري
" كان رجل دولة" كلما سمعت أحدا يلوك هذه العبارة أشعر أن سياقها التهكم، وغرضها إثارة السخرية من الموصوف بها والسخرية من السامعين في الوقت نفسه.
" كان رجل دولة" عبارة مسكوكة يكثر تكرارها كلما ماتت شخصية عملت في السياسية. والسياسة هنا وفق المعايير المحلية ومفهومها المرتبط بالنصب والاحتيال والفهلوة واللعب على الحبال والضحك على الدقون واستغلال البسطاء.
وإذا ما استدرك أحدٌ وقال إن المسكوت عنه من أفعال الرجل الذي تسمونه رجل دولة لا يدل على مسؤولية؛ بل يدينه ويشينه. فكيف تريدون أن تجعلوا منه رمزا، وهو ليس أكثر من فاسد مفسد تجب مساءلته وربما محاكمته؟!
ستجد من يقول مستنكرا مناقشة الأمر بحكم أن الرجل قد مات. وكأنما موته يسقط الحق في أن ننظر في مدى احترامه للقانون، وقيامه بمسؤولياته.
وبيقين الواعظ سيقول المدافع عن رجل الدولة المزعوم: " من قبيل الأخلاق اذكروا محاسن موتاكم". وكأن الأمر يتعلق بشأن شخصي لا بالشأن العام. ثم أي محاسن تلك؟! ولماذا لا نذكر إلا محاسن الموتى هل لأن الموت يطهرهم أم لأن علينا أن نظل رهائن الثقافة القُبُورية؟!
وبين الاستعطاف والاستخفاف بعقول المتلقين وبالذاكرة الجمعية التي يُراد للفاسدين المفسدين أن يعيشوا فيها رموزا كمكافأة على فسادهم. تدور هذه العبارة كأنها حقيقة مطلقة.
"كان رجل دولة" عبارة نسمعها منذ سنوات بعيدة كمفتتح لمصفوفة من المدائح المطاطية المحشوة بالملق والمبالغات. وتلقى بلا تحفظ رغم أنها جوفاء ومشحونة بالرطانة وتفترض أن المتلقين أغبياء وعلى قدر وافر من السذاجة.
وبالنظر إلى معظم المناسبات التي تقال فيها هذه العبارة وسياق اجترارها يتبين أنها تشرعن الفساد، وتحرض عليه؛ من منطلق أن الثناء على الفاسد يعني الرضا بفساده والقبول بأن يكون قدوةً لغيره. وإيعاز للانتهازيين بأن عليهم أن يحصلوا على منصب ليصبحوا وجاهات ويُشار لهم كرجال دولة.
ولو تساهلنا مع من يقول هذه العبارة من قبيل أنَّ وعيه البسيط لم ينتبه لأبعادها ولم يتأمل في أثرها وخطرها؛ فإنه لا ينبغي أن تمر بنا، ونرى فيها مجرد عبارة عابرة.
فما أكثر ما يتم تزييف الوعي وتجريف المعنى بترويج مقولات عاطفية، وتعميم انطباعات غير مسؤولة منها ما تحركه الخفة أو التملق، ومنها ما يعبر عن الغفلة والسذاجة!
وقد يعتذر معتذرٌ ويقول: هي وجهة نظري، ونقول له حينها ليكن لك ما شئت لكنها وجهة نظر متسرعة إن لم تكن ضحلة ودالة على تشدق. ولا ترقى لأن تكون متوفرة على أدنى قدر من الموضوعية.
ونقول ذاك على افتراض أنها قيلت بعفوية ونية حسنة، ولم يقصد بها التدليس والتضليل وبلبلة الوعي.( وربما في مكان آخر ننظر فيما يُعدُّ وجهة نظر وما يُعدُّ عمى فكريا أو تدليسا وتمالوءا على الإسفاف).
" كان رجل دولة" عبارة كاشفة عن عدم وعينا بالدولة، ومهمتها ودورها؟!
ولو وجد لدينا أدنى وعي بالدولة لصوبنا مثل هذه العبارة، ولبادرنا لمساءلة من قيلت عنه.
هذه العبارة تجرنا للتواطوء وليس بعيدا أن نسمع أن ضريح أحد هؤلاء الموصوفين برجال دولة قد صار مزارا، وصار لصاحبه كرامات دولنية ومعجزات وطنية، وخوارق إدارية!
وعموما كلمة "رجال" صارت ممتهنة جدا؛ فهي تضاف إلى الدين فيقال رجال دين صِفة لكثير من المزايدين باسم الدين. وتضاف إلى الله فيقال رجال الله وصفا لكثير من القتلة.
وتضاف لنفسها؛ فيقال رجال الرجال وصفا لكثير من المستقوين بالعصبيات.
وأحيانا يوصف بها بعض الجامدين الراكدين من لا يعقلون ولا يفعلون فيقال رجال مواقف .
وحتى حين يقال رجل قانون أو رجل قضاء،رغم قصدية الدلالة على المهنة؛ فإنها تبدو تعبيرا نافرا يحمل دلالة ضد المواطنة. فمن يعمل في القضاء أو يمثل القانون لا يوصف إلا بأنه موظف. وله توصيف وظيفي بحسب المهمة المحددة قانونا للمنصب الذي يشغله.
وهكذا صارت " رجل دولة " عبارة مسكوكة لا ترد إلا للدلالة على أن هناك ذاتا يُراد تمجيدها من واقع أنها حازت منصبا رفيعا ذات يوم. بصرف النظر عن كيفية الوصول إلى المنصب. وحتى إن أساءت استغلال المنصب وتغولت على الدولة ووضعت نفسها فوق القانون.
ليس لكلمة "رجل" في ذاتها أي دلالة مدنية.
وهي غالبا ما تنتج دلالة سلبية ضمن قاموس العادات والتقاليد، التي ترى أن الرجولة قيمة تستوجب الفخر والزهو والمكانة الاجتماعية. وتختزل فيها معنى التمييز البيولوجي.
ولو تأمل منصف بعض الشيء لوجد أن ما نعيشه اليوم من صراع وحروب ليس إلا نتيجة لما فعله أولئك الذين يوصفون برجال دولة ابتداء من علي عبد الله صالح وانتهاء بأحمد علي مرورا بعلي محسن وعبد ربه منصور وعبد العزيز عبد الغني وعبد الكريم الإرياني وعبد القادر باجمال وعبد القادر هلال وصادق أمين أبو راس...الخ. وما بقي من رجال دولة علي عبد الله صالح وورثتها في العهد الحوثي الذي لا يعرف عن الدولة سوى أنها ديولة بمعنى الغلبةوالتسلط والنهب والسلب والقتل والقهر و التجبر والتنمر...الخ
وعلى افتراض التغاضي عن مرجعية هذه الصفة الرعناء.
ما الانجازات التي حققها هؤلاء للمجتمع لنصفهم برجال دولة؟!
و عن أي دولةٍنتحدث إذا كان هؤلاء هم رجالها ؟!
إضافة تعليق