سنة بعد أخرى، يتسع احتفال اليمنيين بذكرى ثورة 26 سبتمبر، وتزداد حضوراً في الوعي الشعبي والاجتماعي.
أمس وأمس الأول، أحيا كثير من اليمنيين الذكرى الـ 58 لهذه الثورة العظيمة، بمشاعر مختلطة بالحسرة والامتنان.
ظهر ذلك واضحاً في وسائل التواصل الاجتماعي.
أدرك اليمنيون عظمة وأهمية هذه الثورة، التي أنهت، في 26 سبتمبر عام 1962، الحكم الكهنوتي الإِمَامِي الطائفي المتخلف، وخلقت فضاءً وطنياً سمح، للمرة الأولى في تاريخ البلاد، بظهور الهوية الوطنية اليمنية بمفهومها المعاصر.
تَمَثَّل المأزق الرئيسي لنظام الأئمة في أنه ظل، طوال عقود حكمه الطويلة في اليمن، نظاماً مذهبياً فشل في تحقيق هوية وطنية جامعة، لهذا فثورة 26 سبتمبر لم تنقذ اليمن من الجهل والفقر والمرض فحسب، بل خلقت له هوية وطنية مكَّنته من تجاوز الشرخ الوطني الكبير الذي دفع البعض، في عشرينات القرن الماضي، إلى اقتراح قيام “دولة شافعية”؛ لأن “دولة الإِمَام يحيى” كانت تتجلَّى كـ “دولة طائفية” طاغية أكثر منها دولة وطنية يمنية.
وبسبب سيطرة القوى التقليدية عليها، منذ انقلاب 5 نوفمبر 1967، فشلت الثورة في إنجاز أهدافها الوطنية والاجتماعية.
وخلال العقود الماضية، تهافت كثيرون للنيل من ثورة سبتمبر، والتهجم عليها، والتقليل من أهميتها، عبر القول إنها كانت مجرَّد انقلاب أطاح بالنظام “الإِمِامَيِ” لصالح زمرة عصبوية فاسدة ارتدت رداء الثورة والجمهورية؛ لكن الأمر تغير منذ 21 سبتمبر 2014، المشؤوم.
عندما اجتاحت مليشيا الحوثي صنعاء، وسيطرت على “الدولة”، جعلت اليمنيين يعيشون تجربة حيّة مع “الإِمَامة”؛ فأدركوا أهمية وعظمة ثورة 26 سبتمبر.
“الحوثي”، أعاد إحياء “الإِمَامَة الزيدية” من القبر، فنكَّل باليمنيين، ونال من إنسانيتهم.
لقد أدركوا عظمة ثورة سبتمبر، لأن “الحوثي” منحهم تجربة حيَّة أذاقهم فيها مرارات البطش والتنكيل، فعرفوا بشاعة وهول “الإِمَامَة” كأداة للعبودية والهيمنة، وسوط للاستبداد السياسي والاجتماعي والديني.
تموضع “الحوثي” باعتباره تجسيداً صارخاً لـ “الإِمَامَة”، بما هي آلة حرب لاستنزاف المجتمع وحكمه بالإرهاب؛ لهذا صارت الذكرى السنوية لثورة سبتمبر تحظى باحتفالات شعبية غير مسبوقة.
تَغَوَّلت مليشيا الحوثي على جميع اليمنيين، وعلى كافة البُنَى المجتمعية. في البداية، خفتت المشاعر الوطنية لصالح صعود غير مسبوق للمشاعر الطائفية.
لكن مع الوقت، انعكس الأمر؛ بسبب جرائم المليشيا الحوثية، وعُنصريتها السُّلالية. دونما قصد، أجَّجت المليشيا المشاعر الوطنية العامة في البلاد، وجعلت اليمنيين يعيدون اكتشاف عظمة ثورة 26 سبتمبر.
والشاهد أن اليمنيين صاروا يحيون ذكرى هذه الثورة بمزيد من مشاعر العرفان والتبجيل والامتنان.
بدأ ذلك في الاحتفال، الذي أقيم في “صَنعاء”، يوم 25 سبتمبر عام 2014، لإحياء الذكرى الثانية والخمسين لثورة سبتمبر، حيث ظهرت امرأة تبكي وهي تقف بين المحتفلين لأداء النشيد الوطني الجمهوري.
كانت تلك المرأة، التي لم يُعرف اسمها، ترفع يدها اليمنى مؤدِّيَة التحية العسكرية، وتُجَفِّف بيدها اليسرى الدموع المنهمرة من عينيها.
كان المشهد مؤثراً عَبَّر عن حالة شعورية عامة، لهذا تَمّ تناقل الصورة بشكل واسع في وسائل التواصل الاجتماعي؛ طبعاً في معرض امتداح التَّبَاكي الصادق عن الوطن، والنواح الجماعي من عودة “الإمَامَة”.
هذا العام، اتسع نطاق الاحتفال بذكرى ثورة سبتمبر، وزاد معه النواح الجماعي من عودة “الإمَامَة”.
ولا بد أن يترجم ذلك إلى قوة اجتماعية منظمة تُعيد تحرير اليمن من هيمنة مليشيا الحوثي.
أعاد “الحوثي” الاحتفاء بالمناسبات الطائفية والمذهبية، واختلق قائمة أخرى من المناسبات الدينية والسياسية؛ بهدف فرض معاييرها السلوكية، وقيمها/ قيمه على الحاضر؛ “عن طريق التكرار”، والتأكيد المستمر على ارتباطها بـ “الهوية الأصلية” والهوية الجماعية لليمنيين!
احتفل، قبل أيام، بانقلابه (في 21 سبتمبر)، وأمس، نَظَّم في عموم مديريات مدينة صنعاء، فعاليات خطابية “احتفاءً بذكرى قدوم الإِمَام الهادي إلى اليمن” (حَوَّل هذا الحدث التاريخي إلى مناسبة للاحتفال الطائفي في البلاد!).
لكنه لم يستطع التشويش على مكانة ثورة 26 سبتمبر، أو التقليل من شأنها وحضورها في الوعي العام.
26 سبتمبر، ثورة ترفض أن تموت، ولا بد أن تنتصر يوماً ما لنفسها.
*عن صحيفة الشارع