طَرق القضايا المستفحلة ودراسة الظواهر الاجتماعية المزمنة عادة ما يكون بغرض العلاج وكشف العلل وليس التشفي أو إيجاع المستهدفين لأن الكارثة إذا سُكت عنها تعم وتأخذ في طريقها الكل وتغرق السفينة بمن تقل وتحمل.
والمعهود في تاريخ النظم الاجتماعية أن الفقراء هم من أضعف الحلقات في تركيبة المجتمعات وهم من أكثر الفئات التي تستحق العطف في المجتمع. ومن السنن أنها من أقل الفئات وقوفاً مع الطاغية أو الاقطاعي أو ناهب الثروات، بل بالعكس هي التي عادةً ما تثور وتنتفض وتستعذب العذابات دفاعاً عن حقها في العيش الكريم وبحثاً عن الحرية وكسر قيود الطغيان والتسلط الفاحش والنفوذ المزدري للكرامة.
إلَّا طبقة فقراء هضاب اليمن " أفراد القبيلة المعذبين" طبقةً عُجِنتْ بمفاهيم قياسية قاسية جمعت بين العصبية والسياسة والحكم والفقر حتى انكفأت على ذاتها. تجاوزت كل المبادئ وفضّلت تبني المذهبية والعصبية الحمقاء، التي لم تجن منها سوى الوان الفقر والجهل وصنوف المعاناة. سيقت في دورات الحرب كأدوات لا اكثر. تارةً مع الإمام والشيخ وتارةً مع الطاغية المحتال - مُلاعب البيضة والحجر - تارةً أخرى. جعلت من فقرها لعنةً على نفسها أولاً وعلى كل باقي اليمن ثانياً . كلما ثار الناس انتصاراً لها، وحباً فيها و رغبة في خلاصها من رباق الاستبداد جعلت من نفسها جسوراً يعبر عليها ويمتطيها الطغاة ومن أكتافهم خشياً صماء تحمل أنواع السلاح مع المستبد عديم الدين عدو الوطن.
كانوا قادةً وأجناد بنوا الحضارات وشيدوا المدن وذهبوا في سبيل الله فاتحين شرقاً وغرب، حتى دخول يحي الرسي لليمن وتلك كانت بداية المأساة! وجد الرسي بقايا مجتمع استُفرغ من قادته وأجناده الغيورين فأعمل طاحونته في من تبقى سحقاً للذات وهدماً للهوية. أفرغ مخلفات حقده وشعوذاته في ذات عقولهم. سلخهم عن إخوانهم وأبناء عمومتهم في باقي حواضر ومدن اليمن. أملى عليهم بأن باقي اليمن لهم أعداء وأنهم كفاراً وأنهم الأقل قدرة على المقاومة والانتصار. أشاع فيهم شياطينه وجِنهُ وعمم ومن تبعه من طغاة الإمامة أنهم مستجابي الدعوة وخزانات علوم الدين في الأرض، وأنهم سفن النجاة من تبعهم نجا ومن خالفهم وعاداهم ضل وغوى واستحق الموت.
صدَّقوهم في المعتقد! وصدقوهم في الحروب الجائرة معهم عبر القرون! كانوا يملون عليهم أنهم - أي الأئمة - إبتلاهم الله بالعلم وميزهم كرعية بالكد والزراعة والشقاء لأن الفقراء هم وحدهم من يدخل الجنة!!. صدقوهم أن باقي اليمن أرض خراج حلالاً لهم وأن دماء إخوانهم من باقي البلاد من المداحجة وأبناء الأشاعر والمعافر وعدن ولحج ويافع وشبوة ومأرب وحضوموت مستباحة مالم يُسلّموا بسلطان الإمام ويُقِروا بحقه اللاهوتي في الحكم والشعوذة.
لعنة الجهل والعصبية هي التي تدفقت كالصخور المنهارة من أعالي الجبال على ثورة المقاطر في مطلع العقد الثاني من القرن العشرين واخمدتها، وهي ذات الصخور الصماء التي ذهبت باتجاه تهامة لإخماد ثورة الزرانيق 1929م وهي تردد زوامل الطاعة والانقياد للجلادين وهي هي ذاتها التي تكالبت على مهندسي ومفكري ثورة 1948م وعرَّت صنعاء حتى من ابوب البيوت ونوافذها نهباً وسرقة، وحتى اسر من أُعدموا بسيف الإمامة تنكيلاً وإرهاب لم تسلم نساءً وأطفال من ملاحقة زنابيل الكهنوت.
وهي التي حاربت مع الإمامة في جبالها وكهوفها طيلة خمس سنوات، وأحاطت بصنعاء جيوشاً حصاراً وخنق أملا في إسقاط ثورة 26 سبتمبر وإعادة حكم كهنوت الإمامة كي يعيد دورة إذلالهم وهدم بيوتهم وعقولهم بمعاولهم وتجريعهم سوء العذاب، لولا شعار "الثورة او الموت الذي أطلقه" الثوار الشباب من أبناء البسطاء والرعية من كل مكان.
وهي الأخشاب ذاتها التي مهدت لقدوم العصابات وبالدوافع ذاتها إلى عمران وهدمت أول سور من أسوار الجمهورية هناك ومن ثم اتجهت إلى صنعاء في 2014م للسيطرة على الفرقة الأولى مدرع آخر قلعة احتمى فيها الجمهوريون وتمترسوا بها بعد فوات الآون.
الأفواج التي سيقت إلى تعز وعادت توابيت في الانقلاب الأخير هي ذاتها التي سيقت إلى الساحل الغربي وإلى الجنوب عدن والضالع وفي اتجاه الشرق إلى قلعة الجمهورية والثورة مأرب منابت ملوك اليمن ومضارب قصورهم وحصونهم غير أنها كعين الشمس في البعد عنهم لن ينالوها.
وإن كان في مأرب من تلك القُبل والهضاب قيادات وأفراد... إلا أن السؤال لازال مطروحا هنا وقائم، هل تخلت عن الفكرة العنصرية الطائفية الحمقاء وآمنت بما آمن به صناع ثورة السادس والعشرين من سبتمبر وفلاسفتها ومفكريها؟ وهل تخلت عن فكرة من تعلق بأشرعة مراكب الثورة واحتضنت حنشان الإمامة بعد المصالحة وأعادت مسلسل المأساة ليتجرع بوائقه أبناء اليمن في مطلع القرن الواحد والعشرين عصبيةً وسلاليةً من جديد؟! أم أنها لا زالت بنفس البعد والهوى والذاكرة؟.