ها هي ذكرى ثورة الرابع عشر من أكتوبر الخالدة تهل علينا من جديد لتقرع ذاكرة الأجيال وتزاحم آلاف الانشغالات والعذابات التي يعاني منها الوطن والمواطن ويكتوي بنيرانها السواد الأعظم من الشعب الذي مارس حقه ذات يوم في البهجة والسعادة والرخاء والاستمتاع بما أثمرته هذه الثورة من منجزات وما جسدته من حقائق.
لم يكن اندلاع ثورة الرابع عشر من أكتوبر نزوةً لحظية ولا فعلاً بذخياً ولا عملاً طائشاً ولا رغبة ذاتية لثلة من الشباب الأبطال الذي رغبوا في طرد الاستعمار، بل لقد كانت حتمية تاريخة اقتضتها قانونيات التطور الاجتماعي وصيرورة التاريخ الصارمة التي لا تعرف التوقف والركود والنكوص وقد جاء الحدث استجابة لتطلعات الشعب الجنوبي بكل فئاته وتتويجا لعقود متواصلة من محاولات الانعتاق من التبعية الاستعمارية وأوضاع التفكك والتمزق والتشظي الداخلي.
يتزايد اليوم عدد الأفراد والجماعات التي تحاول شطب الثورة الأكتوبرية وحقبتها التاريخية المجيدة الممتدة لما يفوق ربع قرن من الزمن الاستثنائي، وإذا كنا نتفهم دوافع الفئات التي تضررت من إجراءات الثورة وعانت من الأذى لأسباب سياسية واجتماعية معروفة أو لأسباب تتعلق ببعض الشطحات غير المدروسة التي أتت كنتيجة لما تميزت به المرحلة من تصاعد المد الثوري والنزعة القومية أو حتى لأسباب سوء التصرف وقلة خبرة بعض القادة المحليين أو بفعل بعض الميول المتشدد داخل جبهة الثورة، أقول إذا ما تفهمنا دوافع هؤلاء فإنه لا يمكن فهم بعض المواقف التي يتبناها أبناء وورثة مناضلي الثورة وجيل ما بعد الاستقلال الذين صنعت منهم ثورة أكتوبر ما هم عليه اليوم من تأهيلات علمية وخبرات عملية ومستوى معيشي شاركوا فيه ملايين الجنوبيين يوم ما كانت هناك دولة تتكفل بحياة المواطن من الغذاء والدواء والتعليم إلى التأهيل والتأمين وحق العمل والضمان الاجتماعي والأمن والعدل والمواطنة المتساوية وتحريم التمايز بين السكان وتحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية.
إن محاولات القفز على تلك المرحلة التاريخية الهامة من تاريخ الجنوب والممتدة ما بين العامين 1963م و1990م إنما يمثل عدوانا على التاريخ الجنوبي وخذلانا لدماء آلاف الشهداء والمناضلين الأباة الذين سطروا ملحمتي الثورة والاستقلال ووضعوا الأسس المتينة لدولة الجنوب على أنقاض أكثر من 23 سلطنة ومشيخة وإمارة كان بعضها في حالة نزاع شبه دائم مع بعضٍ آخر منها، وبناء دولة وطنية واحدة موحدة تمتد من أقصى حدود المهرة مع سلطنة عمان حتى باب المندب وميون وحنيش وزقر في البحر الأحمر، ويتمتع مواطنوها بكامل السيادة على أرضهم ويحظون بنفس الرعاية حيثما كانوا.
ستبقى ذكرى أكتوبر من كل عام خالدةً تعيد إلى ذاكرة الجنوبيين ذلك المجد الذي ظفروا به ذات زمن وذلك الاستقرار والأمان والشعور بالانتماء الذي افتقدوه، وسيكون من الإنصاف تقييم فترة الثورة الأكتوبرية وما قبلها وما بعدها ليس بمقاييس العام 2019م بل بمقاييس وظروف زمنها وما يتصل به من صراعات إقليمية ودولية واستقطابات محلية وعالمية، ومن تعقيدات اجتماعية واقتصادية وسياسية لزمنها وأوانها.
من المهم التأكيد أنه وبغض النظر عن المنعرجات والمنعطفات التي مرت بها الثورة وما رافقها من هفوات ونواقص فإنها ظلت وستظل ذلك الحدث الاستثنائي الذي لم تشهد له الساحة مثيلا على مدى قرون وستبقى ذكراه راسخة في سفر التاريخ الجنوبي الخالد.
ونختتم بالإشارة إلى أن الكثيرين من الذين سيحتفلون الأربعاء بالذكرى السابعة والخمسين لثورة أكتوبر المجيدة لا تربطهم بهذه الذكرى سوى رابطة الخصومة والكراهية والحقد وإن من تبقى على قيد الحياة من صانعي هذه الثورة يتلوون ألما وعوزاً تحت صفعات العلل والأمراض ويعجزون عن توفير كلفة العلاج والسكن المستقر.
ويكفي أن نتذكر مثالين فقط هما المناضل الأكتوبري علي صالح عباد (مقبل) الذي وافته المنية تحت حصار الشرعية والحوثيين في صنعاء، والمناضل الأكتوبري علي محضار بن حلموس الذي لم يلتفت أحد إلى معاناته سوى رفاقه وأهله ومحبيه وما يزال يفتقد لكل أنواع الرعاية والاهتمام، وأمثالهما المئات ممن طواهم نسيان وجحود الحكام ما يعبر ليس فقط عن التجاهل والتقصير والإهمال، بل عن الموقف العدائي المتعمد تجاه كل ما يمت بصلة لثورة أكتوبر ومناضليها، في حين يعالج المسؤولون سعال وزكام أولادهم وزوجاتهم وصديقاتهم في أرقى المستشفيات العالمية على حساب موازنة الدولة العاجزة عن كل شيء المقصرة في كل شيء إلا تنمية الفساد وتكريس سياسات النهب والسلب.
المجد لثورة أوكتوبر والخلود لمناضليها الشرفاء وشهدائها الأبرار.
* من صفحة الكاتب على الفيسبوك