وليمة في جولة كالتكس

في ذروة الكفاح المسلح ضد الوجود البريطاني، كنا نحن الطلبة الذين ندرس في كلية بلقيس، ونقيم في (كريتر) ننتقل يوميا إلى الكلية في حي (الشيخ عثمان) فوق شاحنة استأجرناها مقابل مبلغ يدفعه كل واحد منا آخر كل شهر.

كنا كل صباح نلتقي في ساحةٍ عند مجمّع البنوك، قريبا من المجلس التشريعي، ومن (مدرسة البادري)، حتى اذا اكتمل عددنا تقافزنا فوق الشاحنة مثل القرود، وتمسكنا بحدايد شبكها، وبقينا طوال الرحلة واقفين، ملتصقين ببعضنا، ومغسولين بعرقنا من شدة الحر.

لكننا ايامها كنا في ذروة الحماس وتتملكنا رغبة في دخول التاريخ ولو من اضيق أو من اوسخ ابوابه.

 

ايامها كنا منبهرين بطالب في نفس كليتنا يكبرنا في السن، ويتقدمنا في الصفوف الدراسية "ثاني ثانوي".

وكان عضوا في تنظيم سري يخوض الكفاح المسلح.

كان هذا الطالب (كما عرفت فيما بعد) يلقي بالمنشورات التي كانت تُسلّم له من مسؤوله التنظيمي في مراحيض حمامات الكلية بدلا من ان يلقيها في الساحة. 

ويوما بعد آخر راحت شهرته كمناضل جسور تنتشر بين طلبة واساتذة كلية بلقيس وكانت شهرته تلك تتعاظم كلما ازداد عدد المرات التي يدخل فيها الحمام، وكلما ازدادت اعداد المنشورات التي يتخلص منها ويلقيها في المراحيض.

ومع أننا كنا حينها في الصفوف الابتدائية والاعدادية الا اننا جميعنا نحن الذين نقيم في (كريتر) كنا منبهرين بثورية هذا الطالب الذي اصبح اسمه عنوانا للثورة داخل كلية بلقيس.

كنا بمجرد ان نبصره واقفا في الساحة يتكلم مع بعض الطلبة حتى ندنو منه، ونرهف آذاننا، ونصيخ السمع لنسمع كلماته التي كانت تلهب حماسنا وتفعل فعلها فينا.

ولشدة اعجابنا بثوريته رحنا في طريق ذهابنا إلى الكلية وفي طريق العودة نتحرش بالجنود البريطانيين في جولة كالتكس تحرشا ثوريا ومن دون طائل. 

كانت نقطة التفتيش في جولة كالتكس هي الاشهر والأخطر حتى اننا بسبب توقف السيارات لغرض التفتيش في تلك النقطة اللعينة كنا نصل الكلية متأخرين، وكثيرا ما كنا نصل والحصة الأولى قد انتهت وكان ذلك يعرضنا للعقاب.

كنا كل يوم وعند مرورنا بتلك النقطة نرسم علامة النصر بالسبّابة وبالوسطى ونشهرها في وجوه الجنود البريطانيين المنهمكين بتفتيش السيارات، وكان يخيل الينا بأن تلك الحركة من قبلنا سوف تثير حنق الجنود البريطانيين وغضبهم، وتجعلهم يوقفون سيارتنا ويطلبون منا النزول للتفتيش، أو ربما يمنعوننا من مواصلة رحلتنا إلى المدرسة وكانت تلك امنيتنا. 

لكن جنود النقطة الأوغاد كانوا باردين في موقفهم معنا، وكانوا يبتسمون في وجوهنا، ويحبطون بابتساماتهم وبتجاهلهم لنا حماسنا وثوريتنا، ويتركوننا نمر إلى مدرستنا من دون ان يوقفوا سيارتنا، أو يطلبوا مننا النزول لتفتيش حقائبنا، وكان تصرفهم ذاك يغيضنا، ويجعلنا غير راضين وغير مرتاحين من انفسنا.

وذات مرة وعند مرورنا بالنقطة كان اكثرنا تقدما باللغة الانجليزية قد اعد نفسه واعد عدته وحفظ شتائم من العيار الثقيل وتدرب عليها دون علمنا.

وعند اقتراب سيارتنا من النقطة راح زميلنا يلقي على الجنود تلك الشتائم التي حفظها وتدرب عليها لعدة ايام. 

ومع ان الجنود لم يعرفوا من فينا الذي شتمهم وشتم امهاتهم واخواتهم الا انهم يومها اوقفوا سيارتنا، وانزلونا من فوقها، وبعثروا بحقائبنا ودفاترنا، وراحوا يضربوننا بنهم وبشراهة، وبكرم حاتمي وكأننا في وليمة أو كأنهم وهم يضربوننا بذلك النهم وبذلك الكرم كانوا ينتقمون من انفسهم ومن تساهلهم وتسامحهم الزائد معنا. 

كانوا ينهالون علينا بالضرب ونحن نصرخ ونبكي.

اما عن نفسي فعندما رأيت الدم يخرج من نخري ويلطخ قميص المدرسة الناصع البياض فقد رحت اصرخ بكل صوتي حزنا على قميصي الوحيد والجديد.

 لكن المفارقة هو ان زميلنا الذي اطلق عليهم وابلا من الشتائم المقذعة خرج من الوليمة بأقل الخدوش واقل الاضرار.

* من صفحة الكاتب على الفيسبوك

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص