الجندي المجهول

يشبه عمي المرحوم عبدالحفيظ علي جازم"1948-2016م" إلى حد كبير الجندي المجهول؛ فالجندي المجهول "هو أي جندي يسقط في معركة، ولايتم التعرف عليه"، وهو ما حدث مع الفقيد حيث أنه أعطى ولم يعلن عن عطاءه فلم يتعرف عليه أحد بل فضل الصمت عن الكلام لأنه يؤمن أن ما فعله هو من صميم واجبه وليس مقابل شيئاً ما أو من أجل الاستئثار بسلطة؛ أو مال.

وبالنسبة لي كنت كلما شاهدت نصباً تذكارياً لجندي مجهول تذكرت هذا المناضل الجسور..ظل ذلك الشعور يطاردني على مدى سنوات، وعندما زرت دمشق وقفت كثيراً أمام نصب "الخوذة" الذي يقع على سفح جبل قاسيون المطل على المدينة؛ فقفزت إلى ذاكرتي شخصية عمي عبدالحفيظ جازم الذي السلاح للدفاع عن صنعاء.. الرجل المسالم الذي لم يكن يؤمن بحمل السلاح إلا عند الضرورة القصوى كهذه الملحمة التي كان أحد صانعيها في السبعين يوماً والتي دافع فيها عن صنعاء في حربها ضد الملكيين1967م؛ حاملا سلاح الأمل .. سلاح الانعتاق من ربقة العبودية في تلك المرحلة.

في كل مرة كنت أشاهد فيها النُصبُ التذكارية وما أكثرها في العالم والوطن العربي كالقاهرة والمغرب وبغداد. في كل مرة كان وحده يخطر في ذاكرتي أما النصب التذكاري المهيب في ميدان السبعين بصنعاء فقد كنت أعرف جيدا أن له حقا فيه فهو أحد لبناته الأساسية بل لقد وضع هناك ليدل عليه ورفاقه أبطال السبعين الذين لولا جهودهم لما حدثت زحزحة في البنية التعليمية والثقافية والاقتصادية في بلادنا.

كلما فتشنا صفحات التاريخ عدنا إلى تلك المرحلة المفصلية في حياة اليمنيين التي كانت تمثل نقطت تحول وكان على اليمني أن يثبت حيويته وفاعليته ولعل أهم ماكان يميز أحاديثه وذكرياته التي لم يكل يوما من ترديدها تذكيره المستمر بأهمية تلك اللوحة الخالدة التي كتبت بدمه هو ورفاقه والأهم من ذلك وفاءه لهم والتذكير بمناقبهم وعظيم استبسالهم في المعركة وقد كان وفيا لأسمائهم فيعدهم واحداً واحداً حيث أنه لم يجبن ولم يضعف بل يغمره شعوراً بالرضا لأنه قال كلمته، ومما يجد ربي أن أقوله هنا انه تمثل التجربة بجدارة فقد انتمى لحركة القوميين العرب ثم الحزب الديمقراطي الثوري الذي كان أحد قادته وقد كان مثالا للرجل العقائدي معتزا بتجربته اليسارية التي غرق فيها وجسد ذلك عمليا حين وجد نفسه أحد موظفي مصنع الغزل والنسيج بصنعاء عام 1966م ذلك المصنع الذي أنشأته الصين الشعبية بعد الثورة اليمنية.

 

ذهب إلى المصنع لتكتمل حلقات المعرفة لديه.. ليكون قريبا من حلم التجربة ومن إحدى ركائزها ف"يا عمال العالم اتحدوا " هو الشعار واللافتة المهولة التي أثقلت كاهله ..كانت مواهبه كبيرة وذكائه حادا.. قرأ كل مايتعلق بالفكر الماركسي وأدب الواقعية الاشتراكية من رأس المال الذي قال لي بأنه كان لايفارقه إلى البروستاريكا، وكنت أجد فيه المثال الذي يحتذي به فيما يخص القراءة الأدبية لأنني تعلمت منه كيف أقرأ تشيخوف ومكسيم غوركي تحديدا خاصة في رواية "الأم" قال:إنني لا أستطيع أن أنسى شخصيات هذه الرواية فهي تعيش معي وتتجول في أروقة مخيلتي إلى درجة أنها توقفني في أي مكان من أجل الاستماع إلى فلسفتها التي تضج في أعماقي ثم أردف هذا هو الأدب المؤثر الذي يحمل قضية"

** أما تجربته في السجون فإنها من أمر التجارب على الإطلاق حيث انه سجن مرتين: مرة في عهد الرئيس الحمدي ومرة في بداية الثمانينات تعرض فيهما لأقسى أنواع التعذيب ولا زال جسدي يقشعر كلما تذكرت آثار التعذيب في ظهره؛ فقد أحرقوا جلده تماما وأصبح بعد تلك التجربة يحمل جلدا بخلايا ميتة ولا ادري كيف استطاع هؤلاء المسعورين أن يبدلوه جلدا غير جلده النابض بالحياة جلدا اسود فحمي.أما أخبار السجون والمساجين والسجانين فهذا الميدان يجيد السباق فيه فهو يعرف حكايات كثيرة عن رفاقه وكيف تم التنكيل بهم ومتى دخلوا السجون ومتى خرجوا ومن لم يلتقي بهم كان يجد آثارا من دماءهم على الجدران وأثرا من كتاباتهم المخضبة بالدم ويجيد فك شفرات مايكتبون وما يرمزون به.كان من إنعكسات تلك المرحلة إصابته بعدت جلطات دخل على إثرها دائرة الشلل النصفي لمدة تقترب من عشر سنوات.

ان من سخرية القدر أن يصبح الجلاد الجاهل المتكبر حاكما ومتحكما في قضايا الغلابا والمساكين ويصبح الشجاع البطل محكوما يتعرض لكل صنوف التنكيل والإبادة ومن المفارقات اللا منطقية أن يتحول الثائر -الذي تعرف صنعاء بأحجارها وأشجارها انه حررها من الحصار- إلى سجين خارج دائرة الحياة ويصبح الجبان الهارب من المواجهة سيد الموقف.

**رحمة الله تغشاه فقد صنع تاريخا من البطولة ثم صمت ولم اسمعه يشكوا أو يمن على الرغم من انه دفع ثمنا غاليا مقابل ذلك فقد جبلت شخصيته على التضحية مهما كانت النتائج حين تمت الوحدة اصدر قرارا بتسكينه في درجة وزير كان القرار مفاجئا له لأنه لم يسع إلى الحصول عليه ..لم ينشغل بالأمر كثيرا ورفاقه الذين كانوا في مواقع المسؤولية لم ينجزوا ما وعدوا به وأتذكر أن الصديق النبيل سعيد عبدالفتاح أطلعني على الكشف الذي تضمن ذلك حيث ورد الاسمين معا في ذلك القرار يومها.

عزائي أن المرحوم لم يصبح وزيرا بقرار من صنع السلطة ولكنه أصبح أكثر من ذلك بعزيمته ورباطة جأشه وقراره هو بأن يبقى جنديا مجهولا إلى الأبد فالحديث يقول "رحم الله قبرا لا يعرف بين القبور" ومن هنا جاء القبر المجهول .

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص