مهمة عاجلة: كفى حرباً خارج "مراكز الثقل" الحوثية
منذ بدء هجوم الحوثيين الواسع على مارب في فبراير الماضي والمطالبات تتعالى بإطلاق عمليات عسكرية في بقية الجبهات لتقاسم ثقل الضغظ القتالي.
ومع ذلك، فإرغام قوات الحوثيين على الانصراف من أبواب مارب والتفرق في الجبهات التي اشتعلت بالقتال المفترض مشروط بحجم العمليات العسكرية وأهدافها.
فليس سوى العمليات الكبيرة ذات الأهداف الاستراتيجية سيصرف قوات الحوثيين عن هدفها الاستراتيجي، أما الاعتقاد أن مواجهات بقوة كتيبة أوكتبتين في جبهات ثانوية ستحقق ذاك الهدف فهو من شاكلة التخطيط الذي أوصل موقف الشرعية العسكري إلى مأزق.
وسواء كان الموقف خطيراً في مارب أو مستقراً فاستعادة الدولة التي لن تتحقق إلا بهزيمة المشروع الحوثي تقضي بإعادة توجيه الاستراتيجية العسكرية إلى مراكز ثقله، وهي القضية التي تثيرها هذه المقالة.
"مراكز الثقل" مصطلح تأسيسي في فن الحرب، ولعله أول ما يخطر على أذهان القادة العسكريين في أثناء التخطيط للحرب، ويعني ببساطة أهداف العدو الاستراتيجية التي بتدميرها أو انتزاعها منه تتداعى قوته وتقترب الحرب من نهايتها، دون الاضطرار للقتال في كامل جغرافية الصراع.
بناءً على طبيعة الحركة الحوثية وما تحت سيطرتها من جغرافيا وقدرات، يمكن تحديد مراكز ثقلها في: مجال جغرافي منيع جداً بتحصينات طبيعية لا نهائية، كثافة سكانية عالية يجبون اقتصادها ويبتزون المجتمع الدولي بمعاناتها التي صنعوها هم، خبراء التصنيع والتشغيل الحربي الأجانب والمحليون، العاصمة صنعاء، قطاع الاتصالات، ميناء الحديدة، منافذ تهريب السلاح، زعماء الحركة خصوصاً غير الممكن تعويضهم في اعتقاد أتباعهم المؤمنين بأسطورة التفوق السلالي.
لكن إحدى حقائق الحرب الراهنة هي أن فصلاً منها دار خارج مراكز الثقل الحوثية سواء العمليات العسكرية أو القرارات السياسية والاقتصادية، وأن الشرعية والتحالف أهدرا أعظم فرصها الاستراتيجية بما في ذلك تحرير تعز والحديدة.
بتوقف معركة الحديدة والنكوص عن إتمام تحرير تعز، خسرت الشرعية مكاسب استراتيجية أهمها:
أولاً، شطر المجال الجيوسياسي الحوثي والسيطرة على أحد شطريه.
ثانياً، إخراج نحو سبعة ملايين شخص من التبعية لسلطة الحوثيين، مما يسلبهم ميزة إدارة الكتلة السكانية الأكبر ويحرمهم من عائدات أنشطتها الاقتصادية وسواعدها المتاحة للتجنيد.
ثانياً، إنعاش الاقتصاد الوطني بعائدات ميناءي الحديدة والصليف، وسد منفذين مشتبه بتهريب السلاح إلى الحوثيين عبرهما.
ثالثاً، داخل النطاق الذي يضم تعز والحديدة يتركز أعلى معدل للكثافة السكانية في البلاد. وتمثيل الغالبية السكانية وقيادتها يمنحان ترجيحاً في أوقات الحرب بإضفاء أحد أوجه الشرعية وتحقيق العمق البشري الذي يعني: قوة عمل أكبر وكفاءات أكثر لإدارة إنتاج اقتصادي أسرع وأوفر، وتأمين فرص حشد المورد البشري المحارب، خصوصاً حين يطول أمد الحرب ويكبر رقم الخسائر البشرية فيغدو استقطاب الأفراد للقتال صعبا.
رابعاً، يضمن تحرير تعز طرد الحوثيين من إحدى آخر نقطتين شطريتين ما زالوا يقاتلون للتشبث بهما في تعز والضالع، إذ ليس مستبعداً أن يدخروا الورقة الشطرية إلى حين يشعرون بخطر مصيري ليفاوضوا بها، مدعين تمثيل الشمال.
خامساً، يتيح تحرير تعز والحديدة تطوير الهجوم إلى مراحل تالية، وذلك لما يقع على أطراف المحافظتين من ثغرات تؤدي إلى المجال الحوثي في إب وحجة ومحافظات أخرى؛ وهي إما ثغرات ناتجة عن انخفاض مستوى الحماية الطبيعية (سهولة التضاريس) أو ضعف في دفاعات الحوثيين أو لسيادة المشاعر الشعبية المعادية واستعداد أصحابها للقتال ضدهم.
فرص استراتيجية فائتة
بنظرة إلى خارطة البيضاء، تبدو على شكل ربطة العنق الفراشة: قسم شرقي وآخر غربي وبينهما خاصرة ضيقة جداً إلى حد أن عرضها عند أضيق مسافة بين طرفيه 37 كيلومتراً جوياً.
وشهدت غالبية مديريات القسم الشرقي مقاومة مسلحة ضد الحوثيين كالزاهر والصومعة وذي ناعم والسوادية ونعمان وناطع وردمان وما زالت مستمرة في بعضها.
حتى منتصف 2020 كانت منطقة قانية الواقعة بمديرية الماهلية مسرحاً لقتال عنيف ضد الحوثيين، ولم يكن يلزم الجيش غير السيطرة على الطرق المارة بتلك الخاصرة الضيقة عند التقاء مديرية الشرية مع مديريات الطفة والسوادية وردمان فتتوقف إمدادات الحوثيين القادمة من غرب المحافظة إلى قواتهم في 12 مديرية تؤلف شرق البيضاء، مما سيقود إلى السيطرة على هذا النطاق المهم بضربة واحدة.
مثلما للحرب مراكز ثقل فلكل معركة منفصلة مراكز ثقل، يرجح تدميرها أوانتزاعها الانتصار.
مثال جلي جداً لتأثير مركز الثقل على مستوى المعركة: جبل جرة.
سأتبع الوصف الشائع له بالجبل، أما للدقة فهي هضبة صغيرة ترتفع بانحدارات متفاوتة الدرجة وسط وادي عصيفرة.
سبقت خلايا المقاومة الأولى قوات الحوثيين إلى التحصن في قمة هذه الهضبة عام 2015 فكان لهذا القرار تأثير هائل في مسار معركة تعز طوال ثلاث سنوات، وإليه يُنسب الفضل في منع الحوثيين من التقدم للسيطرة على وسط المدينة حيث بؤرة المقاومة التي ستتوسع وتدير الشطر الأكبر من المدينة.
فما بين 2015 و 2018 شن الحوثيون هجمات ضارية وشبه يومية من المدخلين الغربي والشمالي الغربي، لكن الرؤية والسيطرة النافذتين اللتين تتيحهما قمة الهضبة على أرض القتال مكنت المدافعين من إحباط سيل الهجمات وتقليل أثر الفارق الهائل في التسلح.
خلافاً لاستغلال استراتيجية "جبل جرة"، يهمل الجيش توظيف مواقع استراتيجية لها هيمنة مطلقة على محيطها.
ففي محاذاة الوادي الذي تتناثر على طوله قرى دمنة خدير ومراكزها الحضرية تطل ثكنات الجيش من على ارتفاعات شاهقة تبدأ من قمة العروس؛ أعلى ذرى جبل صبر حتى جبل الصلو باستثناء فواصل يتمركز فيها الحوثيون، لكن هذا التفوق لم يوظف لتحرير المديرية التي لا تكمن أهميتها في كسب أرض جديدة، بل لأنها المدخل الواقعي لتحرير شطر المدينة الخاضع للحوثيين (الحوبان).
وللقتال في شرق المدينة سيرة موصولة بقصور الاستراتيجية "الشرعية" وخطط تطبيقها، إذ تصمم قيادة محور تعز العسكري على دفع الجيش في خط ملغوم بما لا يُحصى من الألغام والشراك والفخاخ القاتلة، وتعلوه مدفعية الحوثيين الرابضة على تلال سوفتيل والسلال والمقرمي ومقر قوات الأمن الخاص.
كلما تجددت المعركة هناك، غالباً ما يقضي الجيش أسبوعاً في قتال باهظ الكلفة والتضحيات حول محيط قصر الشعب من أجل السيطرة على بناية واحدة، وحتى هذا الهدف صار صعب المنال وسط كثافة النيران المصبوبة من الأعلى والألغام المتفجرة في الأسفل.
من السهل إدراك كم أن التقدم شرق المدينة معقد، وكذا يسهل إدراك تنوع الخيارات البديلة.
لا بد لتحرير الحوبان من البدء بتحرير غلافه الريفي؛ إما بتحرير دمنة خدير والتقدم حتى مدخل المدينة أو بتحرير سفح جبل صبر الشرقي الشمالي حيث منطقتا الكريفات والأبعر اللتان تنتهيان بممر إلى داخل المدينة يشكل ثغرة فاصلة بين تلي السلال والمقرمي تؤمن التقدم فيها لعزل الثكنات الحوثية في هذين التلين قبل مهاجمتها على انفراد.
وفي الجانب الغربي هناك خيار تحرير الطريق الدائري (الستين الشمالي) ذي الأهمية الاستراتيجية العالية لتعدد الخيارات الناشئة عن السيطرة عليه؛ من بلوغ مدخل المدينة الشمالي وطرق ناحية الحوبان الغربية، وعزل القوات الحوثية في جبهة غرب تعز عن إمداداتها القادمة من صنعاء.
سيعتري الحديث في تحرير الحوبان نقص إن لم يذكر بأهمية الطريق الرابط بين وادي صالة والزيلعي في دمنة خدير. والأجدى تركيز القتال للسيطرة عليه وتأمينه، وستكفل حيازته كسر الحصار المضروب على المدينة من مدخلها الشرقي والشمالي ودعم الخطوات الأخرى لتحرير الشطر الخاضع للحوثيين.
وبعمومية أكثر، سيكتسب تحرير الحوبان واقعية وإمكانية أكبر إذا أتى ضمن حالة عسكرية وسياسية أكثر شمولاً تفضي إلى انتصارات واسعة.
في مارب، ما زال الجيش ورجال القبائل يدفعون ثمن أحد أفدح الأخطاء الاستراتيجية في معركة تحرير صرواح.
فمنذ ست سنوات يبذل الجيش ورجال القبائل تضحيات ضخمة لإحراز تقدم في المديرية دون جدوى، ولو أنهم سخروا بعضاً من تلك التضحيات والإمكانات للسيطرة أولاً على جبل هيلان ذي النفوذ الحاكم على كل شبر في صرواح فضلاً عن شرق مدغل وجنوبها، لدان لهم مسرح القتال في هاتين المديريتين حيث يدور اليوم أعنف قتال في حروب اليمن قاطبة.
لكن لأن الحوثيين هم من تشبثوا بهيلان رغم فقدهم الأرض المحيطة به فقد أعادهم هيلان إلى محيطه وعقد مهمة طردهم من تلك الرقعة الملتهبة رغم خساراتهم المهولة.
وفي جنوب البلاد، وتحديداً منطقة العند، حيث تشغل كبرى القواعد العسكرية مساحة قدرها 7.6 كيلومترمربع، يتكرر خطأ استراتيجي منسوخ من خطأ هيلان.
فلو قرر الحوثيون استئناف الحرب في محافظات الجنوب لأدت المرتفعات الاستراتيجية في القبيطة وأهمها تلك الواقعة في صدارتها الجنوبية والشرقية من جبال الحنجرة حتى جبل جالس دور جبل هيلان في المعركة.
ذلك أن جبل جالس الأكثر أهمية لا يبعد عن قاعدة العند غير 29 كيلومترا؛ وهي مسافة في متناول طرازات مختلفة من المدفعية الثقيلة وراجمات القذائف الصاروخية التي في ترسانة الحوثيين.
ولأهمية المواقع المرتفعة فقد دار عدد غير قليل من أشهر المعارك في الحروب القديمة والحديثة على مرتفعات أو حولها من أجل حيازتها لما تمنحه من ميزات الإطلاق الناري المرتفع وتوسيع مجال الرؤية والهيمنة، إجمالاً، على أرض المعركة.
يكفي مثالاً لذلك أن القتال الرهيب الذي دار على تل مامايف بغية السيطرة عليه جعل معركة ستالينجراد خلال الحرب العالمية الثانية إحدى أدمى المعارك في التاريخ.
والجيش بظروفه الراهنة أحوج إلى امتلاك المرتفعات في مسرح القتال، بسبب السمة التقليدية التي تطبع الحرب وضعف تسليحه وغلبة طابع جيش المشاة عليه نتيجة افتقاره للعامل الميكانيكي والدروع.
يتركز جانب آخر من جوانب قصور استراتيجية الشرعية في إغفال أهمية مدن وملتقيات طرق المواصلات الرئيسة التي تشكل حيازتها مجتمعةً ثقلاً استراتيجياً لما لهذه المدن من مواقع تحكم ووصول إلى نواح ومناطق عدة وبما يتفرع عنها من طرق لعبور الإمدادات إلى جبهات القتال.
وتستوي في هذه الميزات مدن كبيرة وصغيرة كالبيضاء والراهدة ورداع ودمنة خدير ويريم، وحتى ملتقيات الطرق المهمة كمثلث عاهم ومثلث مارب- صعدة- الجوف، ومثلث الجوف- مارب- صنعاء.
ليست مصادفة، بالطبع، أن معظم المدن وخطوط المواصلات ذات الخصائص الآنفة تحت سيطرة الحوثيين.
إهمال سلامة القادة العسكريين
لقصور الاستراتيجية العسكرية الشرعية وجه آخر يكمن في إهمال سلامة القادة العسكريين المؤثرين مما قاد إلى خسارة عشرات القادة الذين تتنوع مواقعهم بين قادة مناطق عسكرية وقادة ألوية وقادة أركان ألوية وقادة عمليات مناطق عسكرية وقادة عمليات ألوية وضباط ذوي رتب رفيعة وتخصصات مهمة.
يطغى وعي فروسي بتصورات عامية على قادة عسكريين كثيرين يزنون قيمة القيادة بالظهور والقتال في الصفوف الأولى والحديث إلى الإعلام من مواقع معلومة في الجبهة، أو يرون التزام التدابير الأمنية اختباءً وقلة شجاعة، وهو وعي يجب أن يتغير ويستجيب لفروض الحرب وضوابطها.
ومع ما يثيره إقدام القادة الذين قضوا في الميدان من إعجاب وإكبار، إلا أن خسارة القادة من عدمها أحد عوامل ترجيح الانتصار أو الهزيمة.
وخسارة قائد محنك يبدد فرصة ربح المعركة التي يقودها لما لمقتله من تأثير يتجاوز خسارة خبراته إلى ضرب حالة الرأي العام وإشاعة الإحباط والوهن، وهذا ما يجعل القادة العسكريين والسياسيين ذوي التأثير العالي مراكز ثقل مستهدفة خلال الحروب.
والمنتظر من القائد العسكري: مهارة القيادة وبراعة التخطيط أما الجهد البدني القتالي فاختصاص الجنود والضباط الذين تحت قيادته، ولن ترتفع حالتهم المعنوية بظهور القائد في مقدمتهم كما تتعزى بذلك المقولات الدعائية الإعلامية الجاهزة.
فالحقيقي أن حالة الجنود المعنوية سترتقي أعلى مستوياتها حين يحكم علاقتهم بقادتهم تشارك العاطفة الإنسانية دوماً وصيانة حقوقهم كافة، وقبل ذلك تأهيلهم بدنياً وقتالياً ثم تهيئة أفضل الظروف الممكنة لمعاركهم بما فيها كفاية التسليح ونوعيته واستطلاع أرض المعركة بعناية قبل دفعهم إليها واتخاذ سلامتهم معياراً رئيساً في قرار التقدم أو التراجع.
ويفرض توالي فقد القادة العسكريين المتميزين توفير حماية قصوى للبقية وسن قواعد لتنظيمها في عملية أكثر شمولاً وجذرية؛ يدخل في صلبها تطوير أداء الاستخبارات العسكرية لمكافحة الاختراقات والتجسس واستطلاع أرض المعركة بدقة وتجهيز مراكز قيادة محصنة، فضلاً عن إحاطة تحركات القادة واجتماعاتهم واتصالاتهم بحماية صارمة، وتخصيص وزارة الدفاع مؤتمرات صحفية حول عملياتها بدلاً من ترك الأمر لقنوات التلفزة المتسابقة على تصريحات القادة من الخطوط الأمامية.
وعموماً، كفى حرباً بعد الآن على هامش مراكز الثقل الحوثية.
فما الحرب بملاحمها الشهيرة منذ بدء التاريخ إلا عمليات كبرى ضد مراكز الثقل المعادية؛ نجم عنها أفول حضارات ونشوء أخرى واستسلام جيوش عظمى وتسليم حواضر حكمت العالم حصونها للقادة النابغين في إحراز الأهداف الاستراتيجية.
_____________________
منصة النشر الأصلية: موقع المواطن©.
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص