الاغنية اليمنية أصالةً وتاريخ..نموذج من مدرسة إقليم الجند.
ساهمت الأغنية اليمنية بشكل كبير في تشكيل وجدان اليمنيين وكانت دوماً عاملاً محفزاً ذو أثر بالغ في تلوين كافة مناح الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية، منذ أن بدأ الإنسان اليمني يدب على أرضه محدثاً تغيراً حضارياً بطول اليمن وعرضه وعلى امتداد فتوحاته ومُلكه. عُرف بها بين الأمم وميزته عن غيره بين باقي الحضارات..
الخوض في تاريخ الأغنية اليمنية بحاجة إلى زمن للتقصي والبحث، وجهدٍ لا يكل وصفحات ليس لها حدود، ولعل الحراك الثقافي الذي احدثته مبادرة (1 يوليو يوم الأغنية اليمنية) يشكل باعثاً ومحفزاً للحكومة ممثلةً بوزاراتها المعنية لتبني قرارات مناسبة لتشكيل هيئات مختصة من أساتذة التاريخ والفن والموسيقى لتوثيق وتطوير الموروث الفني اليمني وتحديداً الأغنية اليمنية التي نالها الكثير من الإهمال وطالتها يد العابثين من داخل اليمن وخارجه. 
ظُلمت الأغنية اليمنية كثيراً وامتدت إليها الأيادي تجريفاً وتحريفاً وسطو، في غفلة قاسية من حكومات اليمن المتعاقبة ولم يدركوا بأن روعة الشعور بالمبتكرات الفنية والابداعية، سمة تتميز بها حضارات الشعوب ويرتقي بها نفساً ويهذب مشاعرها ويتسامى بإنسانية الإنسان إلى ابعد مدى.
 بحر الأغنية اليمنية واسع وقعره عميق إذا ما ركبه الكاتب بزورقٍ لا يقوى على هيجان موجه وإذا ما دخله دون إجادة لمهارة الإبحار قذف به موجه إلى شاطئه مرغماً فيعود خائفاً جاحض العينين منهك الروح مستغرباً من هول ما أحاط به من شجو ولحنٍ وقصائد، وصدىً مغنى تعكس أحوال حياته وتعبر عن أفراحه وأتراحه وحروبه وانتصاراته وانكساراته وعيشه داخل اليمن وغربةً في البلاد البعيدة. 
تتجلى هذه المعان في مثال بارز من بحرٍ غنائي يمني فريد جسدته أغنية "معينة الزراع" التي كتبها الشاعر عثمان أبو ماهر وغناها أيوب طارش ولحنها من التراث الذي صاغه الفلاح اليمني الأصيل الذي مثل بزراعته وحقله محور استمرار الحياة وروعتها وعمودها المنتج وما سواه كان الناس على جهده وعرق جبينه يقتاتون، ومما ينتجه يتَّجِرون ويبحرون ويتعسكرون لأخذ المعاشات دون عناء،  كان مطلعها أخاذاً باذخاً بالصوت واللحن العالي والمعنى الذي احتوى الأمل في التحرر من نير الاستعمار والحث على العمل وعدم الركون إلى المقايل وضياع الأوقات والاعتماد على الذات والتحرر من مساعدة الغير..
" آلا معييين آلا يالله يا رازق الطير*** ارزق تخارج من النير
آلا معيييين ما في المقايل لنا*** خير ولا السؤال من يد الغير
الصورة الموسيقية الطوعية أي التصور الموسيقي الذي ولد في اللاوعي عند الفلاح  اليمني فغرد به لحناً طروباً شجياً امتزج بروائح تربته، وأثراها الشاعر عثمان أبو ماهر قصيداً بديع ورفع من شأنها الفنان أيوب طارش صوتاً دافئاً يتمايل مع موسيقاه السامعين عند أول نغم يداعب بريشته الوتر يصدح به في سلمه العالي موسيقى تصدح في السماء..
كانت الأغنية اليمنية ولازالت هي الروح التي عاشها المزارع يغني مواسم حصاده ويشد بها سواعده وينتشي بها في كل مرحلة من مراحلها، من مرحلة "التليم" حين يلقي حبة القمح في كبد الأرض كي تنب وهو يخاطب ساحب المحراث..  
سلمه واسلم .. سلمه واسلم*** سلمه واسلم.. داخل المتلم
سلمه واسلم.. يا خفيف الدم*** سلم المحجان يا هلي يا أحوم
إلى موسم "الكحيف" حين يقوَّمُ الزرع كي يسند طوله ويردفه بالتراب كي لا يتهاوى عندما يمتد عوده، يخاطب البلابل الحائمة في سمائه ويدعوها للمساعدة، قائلاً "
وابليبل قيم معي الزرع وابليبل رحله برحله وابليبل والعين كحلى"
 وحين الحصاد حينما تمتلئ "السبول" "والمحاجين" بالثمرة وحين يحين صرابها يلتفت الشاعر الهائم الذي جرب الغربة وعانى منها فراقاً للأرض والأحبة يناجي طيور السماء التي تحوم حول تلك السبول يريد منها ترديد الصدى والإجابة عن سؤاله أين ذهب من أحب وهاجر ونسي حبيبه وطال هجرانه، يشكو سنين الاغتراب الطويلة.
ألا مُعين ألا يا ذي الطيور*** بشريني عمن هجر خبريني
لمه..لمه.. أكه نسيني*** ألا هجره طوى لي سنيني
آلا معيين محلى الزراعة واغايب والما بكل المداريب
 ارجع لعذر الشواجب آلا معيييين شُم الذرة في لوا إب  
 
أما مفردة " لمه لمه اكه " رفعت وقع اللحن الراقص وأعذبت معناه داخل القصيدة؛ كونها تتحدث بلهجة الريف التعزي والتي تعني  لماذا هكذا نسيني وبرغم طول القصيدة وتنقل اللحن مع مقاطع القصيدة وزناً وقافية وبلحنها الطروب صارت محفورة في ذاكرة الكثيرين ولا يَمل تكرار سماعها من أصحاب القلوب السليمة...
وعليه بمقدور الباحثين والجهات المعنية إضافة مدرسة الفن التعزي أو "الجَنَدي" نسبةً إلى إقليم الجند والذي يمثل محافظتي "إب وتعز" إلى باقي مدارس الفن اليمنية بالوانها ومدارسها المختلفة لأن تحمل كل المقومات التراثية الأصيلة والمعاصرة  والتي ترقى بها إلى مصاف باقي المدارس. أبرزها الفنان أيوب طارش وعبد الباسط عبسي ومعهم كوكبة من الفنانين، لونوها بألحانهم واصوتهم المتميزة ولهجتهم العذبة واحساسهم الفني الثوري والعاطفي الساحر. وجسدها الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان الفضول والدكتور سلطان الصريمي وعثمان أبو ماهر ومعهم كوكبة من الشعراء، ولأن الريف التعزي ملئ بالأهازيج، والمهاجل، والملالات التي رافقت الانسان في كل مراحل وأطوار حياته العلمية والعملية والنضالية وحثته على النهوض والعمل والثورة والتضحية ضد الطغيان.
 أسسوا لها  كفنٍ أصيل يحاكي طبيعة وعادات وتقاليد المناطق الوسطى محافظتي "إب وتعز" قلب الخصوبة والزراعة والخضرة والاقتصاد والغربة والأغنية، ذلك الفن الذي يغنى للفلاح كالأغنية التي أسلفنا، والنشيد الوطني الثائر نشيد الجمهورية الوطني، وللمقاتل كالذي أنشده الفنان أحمد المعطري" من كلمات عثمان أبو ماهر، يميناً بمجدك يا موطني
أنا الثائر الحر رمز النضال***وجندي بلادي لوم القتال
شربت المنايا كشرب الزلال***وتوجت بالنصر هام الجبال
كما لامست هموم المغترب في أغنية "يوم الصباح بكرت اوادع اهلي" وبالله عليك وامسافر لا لقيت الحبيب" وللرعيان حيث المطر يهمي بسحابة عليهم وهم يبحثون عن كنان، كما ورد في أغنية "مطر مطر والظباء بينه تدور مكنه يا ليت وانا سقيف، كما أن 
جعلت الأغنية اليمنية من  قلب المهاجر كنسيج خفيف تتسرب منه الآهات بنعومةٍ  كالنسيم  لا جواز لمشاعره عند عبورها، وليس له عليها سلطان، إلا سلطان الأغنية وجواز اللحن الحزين والقصيدة التي تناديه بالعودة إلى أرض الوطن والعمل في أرضه وحصاد خيره وحماية أهله من طمع الذئاب الحائمة..  
ارجع لحولك من دعاك تسقي ورد الربيع من له سواك يجني
في غيبتك ذيب الفلاة حائم على المواشي والبتول نائم
وانت على الغربة تعيش هائم سعيد وغيرك مبتلي بالأحزان
وعليه ستظل الأغنية اليمنية هي القاسم التاريخي العابر والمشترك بين أبناء اليمن والجزيرة ما دامت أرضها تخصب وتنجب وأصواتاً، وسهولها تزرع وتلهم لحوناً، وبحارها الممتدة تزخر بأنواع الكائنات تهيج مشاعر روادها فيغنون، إذن فهي البحر الفني الذي يغترف الناس قريبهم والبعيد، ما يطربهم ويصقل حياتهم عقولاً وأرواح..
 
 
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص