في ذكرى رحيل مصباح الجمهورية

قبل أشهر، زرتُ قاهرة الزعيم عبدالناصر، رحمه الله، وخلال مكوثي فيها توجهت لزيارة ضريح مصباح الجمهورية، القيل الكبير عبدالرحمن البيضاني، رحمه الله، لقراءة الفاتحة على روحه الطاهرة والاعتذار له من أجيال اليوم لتفريطهم بأعظم ثورة يمنية على مدار 1200 عام، كان "المصباح" أحد أهم مُشعِليها وأعمدتها التنويرية الثورية.

وصلت إلى مسجد البيضاني بمنطقة المعادي، وكُنتُ أظن أن قبره سيكون في جنبات المسجد الذي بناه شأن كثر من العظماء الذين ساهموا في إحداث تحولات جوهرية في حياة أممهم، إلا أن ظني لم يكن في محله. وبعد السؤال عن مكان دفنه قيل لي أنه ووري الثرى في مقبرة "الشافعي"، شديت الرحال إلى المقبرة لكنني وجدتها مترامية الأطراف، والقبور فيها أشبه بالغرف المغلقة تحت مسميات عائلية.

ظللت أحوم حول المقبرة وأسأل كل عابرٍ عن التربة التي احتضنت رفاة المصباح السبتمبري، لكنني بئت بالفشل، وعُدت إلى أدراجي بعد ساعات طوال من البحث والزحام الشديد في عاصمة يسكنها قرابة 20 مليون نسمة!

في هذا اليوم، 1 يناير، يصادف الذكرى التاسعة لرحيل مصباح الجمهورية، بعد عمر طويل أمضاه في سبيل اليمن، ثورة وجمهورية، ثائراً وناصحاً ومُحذّراً، ذلك لأن القيْل عبدالرحمن البيضاني عرف مكمن المعضلة اليمنية منذ قرون، بعد قراءة مستفيضة لجذورها الهاشمية الإرهابية، وشاء أن تكون ثورة 26 سبتمبر الخالدة ثورة جذرية ضد الكهنوت، بكل ما يحمله هذا المصطلح من أبعاد ومفردات.

الدكتور البيضاني واحدٌ من الثوار القلائل الذين غاصوا في كنه تاريخ الكهنوت الهاشمي في اليمن، وقرأوه قراءة فلسفية معمقة، وخرج منه بخلاصة الاجتثاث الكلي لهذا السرطان الغازي للجسد اليمني، حتى لا ينتشر مجدداً في أجيال لاحقة، إلا أن رؤاه التنويرية الاستشرافية قوبلت بالشيطنة تارة ودعوى العقلنة تارة أخرى، وهو الأمر الذي قاد إلى عودة السرطان السلالي مُجدداً ليقتل الشعب اليمني بصورته الحوثية الإرهابية.

في كتابه البديع "أزمة الأمة العربية وثورة اليمن" يشير القيل البيضاني إلى مسألة هامة تقود إلى استعادة الحق اليمني في الحرية والسيادة والعدالة والمساواة، وهي التكتل الوطني اليمني المبني على عقيدة وطنية جامعة، إذ يقول:

"عندما أتعرض للحكم الهاشمي في اليمن فإنني لا أدعو إلى تفرقة عنصرية بين أبناء الشعب وبين الهاشميين، فهذه التفرقة موجودة فعلاً، وهي أساس الحكم الهاشمي نفسه، ولايمكن للشعب أن يصل إلى المساواة والعدالة الاجتماعية إلا إذا تكتل ليواجه هذا الظلم الاجتماعي. والشعب لا يتكتل إلا إذا خلقنا له رأياً عاماً وعقيدةً جماعيةً نستخلصها له من شعور أغلبيته الساحقة، ومن واقع حياته، ومن ضمير العدالة."

هذه الدعوة للتكتل الوطني تحت راية واحدة هي ذات الدعوة التي يتبناها اليوم حراك القومية اليمنية أقيال، فالبيضاني أدرك أن اليد الواحدة لا تصفق، وأن دعوته للثورة الجذرية لم تكن ممكنة وقتها، لغياب أهم عاملين في نجاحها، وهي الفكر القومي الجامع والتنظيم أو التكتل المجتمعي الحامل لهذا الفكر والمُحقق لأهدافه الوطنية العليا.

ليس أمام الشعب اليمني اليوم إلا السير على درب مصباح الجمهورية، لاستعادة الدولة المختطفة من بين فكي الكهنوت السلالي، وابتناء اليمن الجمهوري الخالي من شوائب الدخلاء، هذا الدرب لن يكون سالكاً إلا إذا كان الوعي الوطني في أعلى مستوياته، لأن الهاشمية أعاقت نمو هذا الوعي منذ توردها إلى اليمن، وفي هذا يقول الدكتور البيضاني في نفس الكتاب السالف الذكر:

"عمل الهاشميون على إعاقة نمو الوعي الوطني في اليمن. احتقروا التعليم وحرّموه بسبب خطورته الكبرى على سلطانهم، واحتقروا العمل الشريف مفضلين عليه العرق والنسب، وأوجدوا التفرقة في المعاملة بين الشعب، وسلّطوا بعضه على بعض تحت عناوين مذهبية زيدية وشافعية، وخضّبوا أرض اليمن بدماء عباقرتها ومُصلحيها الذين يظهرون من جيلٍ إلى جيل يهدون القلوب إلى الحق ويلفتون العيون إلى النور."

هناك اليوم من يحمل -إلى جانب الكهنوت الهاشمي- معول شيطنة كل من يدعو لنشر الوعي القومي اليمني، واستنهاض الذات اليمنية، بدعوى الحكمة والعقلنة ووحدة "النسيج"، إلا أن تجارب الماضي تؤكد أن مواجهة العدو دون هوادة هي السبيل الأوحد لاجتراح اليمن الجمهوري الذي نريد، وهو الأمر الذي حذّر منه القيل البيضاني رحمه الله بقوله:

"إن الثوار ينقلون مشاعر الأمة إلى ميدان القتال ليقف الشعب في مواجهة أعدائه، بينما يبحث السياسيون عن الحلول الوسطى مع أعداء الشعب على موائد المساومات، بالحكمة التي يحرصون عليها، وبالعقل الذي يدّعونه، ولو بقيت الأمور على هذا النحو لعاشت اليمن المأساة ألف سنة أخرى بحكمة السياسيين وعقلهم."

رحم الله مصباح الجمهورية القيل المناضل الثائر عبدالرحمن البيضاني وأسكنه فسيح عليين.

* المصباح كان الإسم التمويهي للدكتور عبدالرحمن البيضاني قبيل تفجير ثورة 26 سبتمبر

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص