عاشت اليمن عبر تاريخها موحدة دون حدود جغرافية تفصل بين أبناء العرق الواحد وتحرمهم التنقل بين كياناتها، سواءً كانت دول أم مخاليف أو أقاليم ولم يشعر الفرد اليمني بالغربة عند عيشه في الطرف الآخر لأن السلطات لم تُنكر عيلهم ذلك الحق أو تلاحق المقيم كونه غريب غير مستحق المقام..
حتى في عهد الاستعمار البريطاني والتواجد العثماني في اليمن، كان التنقل بين الشطرين والعمل والعيش في عدن أو تعز وإب والضالع والبيضاء تحديداً، بحكم المتاخمة الحدودية متاح للجميع وكذلك باقي المدن دون قيود تشطيرية أو سياسية فلم يشعر حينها المواطن بالحرمان من بلده في كلا الشطرين.
أجمل وأنبل تجسيد للوحدة اليمنية دماءً وتراب، رغم التشطير وقيام حدود دولية تفصل بين الشطرين بعد الاستقلال ومعترف بها دولياً، كان في قيادة الشطر الجنوبي إبان التشطير، إذ لم يتم التفرقة بين أعضاء فريق الحكم والجهاز الإداري للدولة على أساس مناطقي أو طائفي أو عرقي شمالي أو جنوبي.
على عكس نظام الشمال وفقاً لما ورد قي كتاب "الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي" للدكتور أبو بكر السقاف حيث أشار إلى ممارسة أقصاء الآخر إبان حكم الإمامة على أساس سلالي ومذهبي..
وإبان الجمهورية بعد السطو عليها من قبل المكونات التقليدية القبلية والطائفية تغذيةً للمطامع وخدمة لميولات وأهداف الخارج بمقابل رخيص وعلى حساب بناء الدولة وتحقيق أهداف الثورة والجمهورية..
ومن ثم أقصت كل صُناع الثورة، قتلتهم وشردتهم طاردت كل حاملي هم الوحدة وحاملي الفكر وفكرة بناء الدولة والمتعطشين إلى قيام حكم وطني جمهوري وحدويٌ عادل.
ناضل الجنوب بمعية يسار الشمال، وهاموا عشقًا بالوحدة وعملوا على استكمال مسار تصحيح ثورة السادس والعشرين من سبتمبر بعد المطاردة والنفي، استماتوا في سبيل تحقيقها بكل السبل، عبر النضال السلمي الحزبي السياسي، وعبر حروب 71و 1979م بين الشطرين، وحروب الجبهة الوطنية في مناطق الشمال إب تعز البيضاء الضالع حتى وصلت إلى بعض مناطق شمال الشمال ..
في الوقت ذاته أنكرها وتهرب منها بل وحاربها صناع القرار في الشمال - خوفاً على الدين فلا هم الذين حافظوا عليه كمبادئ وقيم ولا هم الذين أقاموا دولة - برز المؤمنون الخُلَّص في تحقيق الوحدة بالقوة في الجنوب الشهيد اللواء صالح مصاح وعلي عنتر وعلي شايع هادي وغيرهم على عكس إيمان البعض في تحقيق الوحدة سياسة وسِلماً وعلى رأسهم البارز في الحزبي الشمالي الكبير عبد الفتاح إسماعيل..
ودعم النظام في الجنوب الكفاح المسلح عبر الجبهة الوطنية الديموقراطية بالمال على شِحتهِ والسلاح وأوى المناضلين الأحرار الفارين من جحيم الشمال، درب درس أهَّل وثقَّف وابتعث إلى الخارج للدراسة، المرض والقزمية والفوضى والهوى اللاوحدوي كان كله في نظام الشمال.
قراءة كتاب ومذكرات المناضل السبتمبري جار الله عمر والاستماع إلى شهادة الأستاذ يحي أبو أصبع في برنامج حصاد السنين على قناة السعيدة وسعيد أحمد الجناحي، وكثير من الساسة والكتب والدراسات، كلها تثبت وتشهد، أن الوحدة صناعة جنوبية بامتياز غير أن الناس لا تسمع ولا تقرأ ولا تريد أن تعترف ولا تريد أن ترى إلا ما ترى..
تضافرت الظروف التاريخية والسياسية والموضوعية والدولية في العام 1990م دفعت باتجاه تحقيق الوحدة وهتَف الناس في عدن "لا شمال لا جنوب وحدتنا وحدة قلوب" انطلقت الجماهير كان اندفاع الجنوب كله قيادة وحشود نحو الوحدة سيلاً جارف..
برزت بعض المستبطنات تجاه من لجأوا إلى الشمال إبان صراع 1986م وطُلِب إقصاءهم من قبل قيادة الحزب الاشتراكي، بل أصروا على خروج علي ناصر محمد إلى سوريا..
انقسمت على نفسها قوى الشمال ثم اتحدت عند اكتمال المشروع لتقاسُم الجغرافيا وما أقلت، على اعتبار أنها رقعة توسعت ليتوسع السطو والنفوذ على أساس حزبي وجهوي حتى وصلت إلى آخر النفق حيث افترقت بهم السبل حتى اندلعت حرب صيف 94م.
الوحده كانت طموحاً باذخاً ونشيدًا من هوى، قام صرحها على أسس نوايا غير وطنية تأبطها شرها أناس منزوعي الهوى الوحدوى العاشق للأرض والإنسان..
حملوا معولاً للبناء وفي اليد الأخرى معولاً للهدم يستقطب الوحدوي ويغريه على أساس برجماتي ودعَم الحراك الجنوبي المطالب بفك الارتباط على أساس صناعة التوازن المختل أصالةً..
بعد انسداد أفق التوافق بين الحزبين شركاء السطة أستوفى النظام في صنعاء بعد حرب 94 كل عوامل التذمر في المناطق الجنوبية، ذهب النظام في صنعاء إلى إدارة الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي بمنهجيته المعتادة عن طريق إدارة الأزمات وتفريخ المشيخات والجماعات وتفخيخ الأحزاب والعمل على إدارة الصراعات لا حلها..
كان تصعيد الحراك الجنوبي أبرز مثال إذ كان في بداياته مطالب بجقوق متقاعدين يشكون الجوع والإقصاء، انتهبت السلطة كل آمالهم، أُهرق الكثير من الدم بعد أن انسكب الكثير من الحبر تدبيجاً للوحدة والتغني بمحققيها، لانهم أي طرفي الصرع قبيلي وحزبي اختزلوها بذواتهم وفصَّلوها على مصالحهم تقاسماً سياسياً وامتيازات..
ولا غرابة من تنكُر البعض للوحدة وتنكُب البعض الآخر إذ يقع اللوم على هادمي الحلم الجماهيري وبناة المصالح على أشلاء الفقراء، مأساة نخب الأمس تتكرر اليوم وتُخدع الجماهير اليوم وتُستغل القيمة الوطنية والانسانية والتاريخية للوحدة ويُتَّجر بها من جديد بدعاوى المظلومية، من قبل نخب اليوم، السلب والنهب ماضٍ على أشده من سابقاتها..
غير أن الوعي الوحدوي والوحدة كضرورة يزداد وتزداد يوماً بعد يوم رغم الفُرقة وشتات الحرب واتساع رقعة الأهواء، تحول موقف الكثير من الجنوبيين الداعيين لفك الارتباط باتجاه الوحدة وتراجع الزخم في الشمال.. غير أن قَدرها ماض لأنها باتت ضروة وستستمر وخيارات إعادة تشكُلها وارد، لأنه لازال في اليمن الخير، وفيه من القيادات المخلصة والوطنية ما يعول عليها للمحافظة على تماسك الوطن ونصره ضد كل المشاريع القزمية المناطقية أو السلالية العديمة..