الصليحيون والإمام العريان!!

لم يكن مقدم «الهادي» يحيى بن الحسين إلى صعدة بطلب من أعيانها، إلا بداية لتوالي قدوم الطامحين من أبناء عمومته، لمنافسة أحفاده في الإمامة والحكم، في البدء قدم القاسم العياني، ثم القاسم الزيديي، ثم أبو الفتح الديلمي، ثم أبو هاشم الحمزي، تلقف غالبية أبناء الهضبة الشمالية دعواتهم، وضحوا في سبيل نصرتهم بالمال والرجال، ومن «صيد البراري» بخارف، مروراً بمنطقة «المنوى» في أرحب، وصولاً إلى «قاع الديلمي» بذمار، ثمة شواهد متناثرة، تحكي بأسى فصول تلك المأساة.

قدم من الحجاز «أبو هاشم» الحسن بن عبد الرحمن، وقيل من الشام، وذلك مطلع العام «418هـ»، أعلن نفسه إماماً، وتلقب بـ «المعيد لدين الله»، وإليه ينسب الأشراف «الحمزات»، أقام بـ «ناعط» مدة، وهو قصر حميري في حاشد، ثم توجه صوب مأرب، أنفذ منها كتبه إلى النواحي، واستهلها بهذه المقدمة: «من عبدالله، الإمام المعيد لدين الله، الداعي إلى طاعة الله، الدافع لأعداء الله».
   
أيده عبد المؤمن ابن أسعد بن أبي الفتوح الخولاني، وأخوه المنصور، وأيدته بعض القبائل، دخل صنعاء مسنودا بهم، وذلك في «رمضان» من السنة المذكورة، خطب له «ابن التقوى» قاضي صنعاء بالإمامة، ليغادرها في العام التالي مُكرهاً، توجه إلى «مخلاف جعفر»، وأثناء عودته تخلت قبائل «عنس» عن مناصرته، وأجبروا روحه مع نهاية العام «421هـ» على المغادرة. 
   
بعد مقتل «أبي هاشم» بـ «16» عاماً، قدم من «طبرستان» أبو الفتوح الديلمي، بعد أن فشلت دعوته هناك، دعا لنفسه بالإمامة هنا، وتلقب بـ «الناصر»، نهب صعدة، وخرب دورها، واجتاح خولان، وقتل عدداً كبيراً من سكانها، وأقام في ظفار «ذيبين»، وأيدته أغلب قبائل الهضبة كما هي عادتها؛ وخاطبهم قائلاً:
ألا يا لهمدان بن زيد تعاونوا
على نصرنا فالدين سرب مضيَّعُ
ونادوا بكيلاً ثم وداعة التي
لها المشهد المشهور ساعة تجمع
ولابد من يوم يكون قتامه
بوقع القنا والمشرفية أدرع
أنا الناصر المنصور والملك الذي
تراه طوال الدهر لا يتضعضع

كانت «الدولة الصليحية» حينها في بداياتها «439هـ»، وكانت نهاية «الناصر» على يد مؤسسها الأول علي الصليحي، وذلك بعد «7» سنوات من مَقدمه، بـ «نجد الحاج» برداع، وقتل معه حوالي «70» رجلاً من أنصاره، ودفن وأصحابه بالقرب من مدينة ذمار، بمكان عرف من يومها بـ «قاع الديلمي». 
   
سعى التحالف «الإمامي ـ القبلي» إلى إيقاف التمدد الصليحيى، إلا أنه مُني بهزائم متلاحقة، في البدء هُزم جعفر بن قاسم العياني في معركة «المحارم» بالحيمة «443هـ»، ليسير في ذات السنة بالقبائل الموالية له إلى «صيد البراري»، وهي منطقة بين «ريدة» و«خارف»، وهناك دارت معركة كبرى، هُزم فيها، ودخل مذلة الأسر، بعد أن خسر أكثر من «300» من أنصاره، أفرج «الصليحي» عنه، بعد أن تعهد بـ «أن لا ينصب له حرباً، ولا يقاتل له حزباً».
   
تنكر القاسم بن جعفر العياني لعهد أبيه، وحاول هدم منازل «الصليحين» وحصونهم، في صنعاء وما جاورها «447هـ»، مُستغلاً ذهاب «الصليحي» إلى زبيد، تخلى أنصاره عنه بمجرد سماعهم بعودة الأخير، لتتجدد الحرب بين الطرفين، كان النصر كالعادة حليف «الصليحين»، وقع «الابن» في العام التالي أسيراً كوالده، وقيل أنه سلم نفسه، ليفرج عنه «الصليحي» بعد سنتين، بدون قيد أو شرط، بعد أن أكرمه وأحسن إليه، ليستأذن «الصليحي» بعد وفاة أبيه بالذهاب إلى الحجاز «450هـ» ، فكان له ما أراد.
   
لم يأتِ العام «455هـ» إلا وقد كون علي الصليحي دولة إسماعيلية، شملت اليمن كله، وبذلك توحدت للمرة الثانية في تاريخها، بعد توحدها الأول في العصر «الحميري» الثالث، وحين عمَّ خبر اغتياله الأرجاء «459هـ»، وهو في طريقه للحج، على يد «النجاحيين»، عمَّت الفوضى البلاد، وتصدى ولده «المكرم» بحزم لجميع التمردات القائمة.  
   
تجسد التَمرد الزيدي بظهور إمامين في وقت واحد، الأول يدعى حمزة بن الحسن «أبي هاشم»، والآخر ـ من تقدم ذكره ـ «الشريف الفاضل» قاسم العياني، لقي الأول حتفه وابنه في أول مواجهة له مع «الصليحيين»، في «ذي الحجة» من ذات العام، بمنطقة «المنوي» في أرحب، كان معه «8,000» مقاتل من قبائل «بكيل، ونهم، ووداعة»، وقيل ضعف ذلك، لقي «800» منهم مصرعهم، ومعهم «70» شيخاً من همدان.
   
في تلك الأثناء كان «الشريف الفاضل» عائدٌ لتوه من المدينة المنورة، لتصله فور وصوله مدينة صعدة رسالة من أخيه «ذي الشرفين» محمد، طالباً منه مناصرة الإمام حمزة، وبينما هو مُنهمك بتجميع الحشود وصله نبأ «واقعة الملوى»، فقرر حينها أمام تحفيز مناصريه، خوض غمار مواجهة «الصليحين»، وأعلن نفسه مُحتسباً.
   
وقد خاطب حينها الأمير «ذو الشرفين» محمد «الصليحيين» قائلاً: 
قتلتم بني الزهراء عمداً قطعتموا
بذيبين والمنوى حبال التواصل
وبالفقع والمخلاف أيضاً قتلتم
أبا الفتح يهدي رأسه شر حامل

خدع «الشريف الفاضل» أنصاره من قبائل «ذبيان، وبني جبير، وبني الدعام» بظهور «المهدي المنتظر»؛ واستغل سذاجتهم مُستجلباً حكاية عمه الحسين العياني، وحين ارتفعت وتيرة مطاردة «الصليحيين» له، تحصن في شهارة «460هـ»، وبعد مضي عامين توجه «المكرم» إليه، وحاصره لـ «5» أشهر متتالية.
   
دارات على تخوم شهارة حوالي «70» واقعة، كان آخرها معركة «أقر»، قتل فيها «900» من الجانبين، هُزم «الصليحيون»، وانسحبوا إلى صنعاء، أعلنت معظم القبائل بعد ذلك ولاءها لـ «الشريف الفاضل»، الذي أنشأ داراً لضرب العملة، وسيطر على صعدة، وحجة، ثم صنعاء «466هـ»، الأمر الذي جعل «المكرم» يسارع بنقل عاصمة دولته إلى جبلة.

بعد «7» سنوات من الحكم، تخلت القبائل فجأة عن مناصرة «الشريف الفاضل» وأخيه، بل وحاربته، وحين أيقن عدم مقدرته على مواجهتهم، اعتزلهم، وتوجه إلى الجوف، وهناك تحول إلى مزارع في ضيعة «عمران»، قسمها لـ «3» أقسام، قسم له ولأخيه «ذي الشرفين»، وقسم لبني «نهم»، وقسم لبني «الدعام»، لم يعجب ذلك التقسيم القبائل، فقتلوه نهاية العام «468هـ»، وهو عريانٌ يغتسل بـ «غيل الخارد». 
   
قاد «ذو الشرفين» محمد أنصار الزيدية لمحاربة قاتلي أخيه، أروى غليله، وشفا غيظه، وفتك بالكثير منهم، ليعود مرة أخرى إلى شهارة، طامحاً في الحكم والإمامة، إلا أن أخاه «سنان الدولة» أحمد تخلى عنه، ودارت بين أنصارهما حروب، داهمه بعد ذلك المرض وبشدة، أقعد فكره، وثبط تطلعاته، وظل طريح الفراش إلى أن مات مطلع العام «478هـ»، بـ «شهارة الأمير»، التي تنسب إليه.

آلت الأمور من بعده لولده «جعفر»، ويعد الأخير آخر الأئمة من «بيت العياني»، أغفل معظم المؤرخين سيرته، وقيل أنه حكمه لم يدم طويلاً، والسبب صراعه مع طامحين كُثر من ذات الأسرة، لتدخل الإمامة الزيدية بعد ذلك مرحلة الإنكماشة الكبرى، حتى وصلتها من بلاد فارس دعوة، أعادت إحيائها من جديد.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص