الانشقاقات الراهنة فيمن تبقّى من المؤتمر الشعبي في اليمن تحت مظلة الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح، ليس أمراً مُفاجئاً، ولا هو بطارئ، فقد بدأت هذه الانشقاقات بالترافق مع الانتفاضة الشبابية الشعبية السلمية في عام 2011م. حيث شملت القيادات المؤتمرية الأكثر حصافة وانتماء لمشروع المستقبل الواعد، والشاهد الأكبر على ذلك أن جُلّ قيادات الشرعية اليمنية اليوم، إنما هي من المؤتمر الشعبي، أصالةً، وتنظيماً، وحضوراً مساهماً على مدى عقود من الزمن السياسي اليمني المترجرج.
ما يجري اليوم هو استمرار طبيعي للانشقاقات الأولى ذاتها قبل سنوات، فقد تبيَّن لمن راهنوا على وعود صالح وتقحّماتِه الدراماتيكية، أنهم يقبعون اليوم تحت نيران المُصادرة المعنوية والنفسية والأخلاقية، فالميليشيات القبائلية الحوثية، ومنذ أن شكّلت مجلسها الثوري، سعت بالترافق مع ذلك إلى تجريد الدولة من ركائزها، وتعرية المؤتمريين الباقين مع صالح، من ملابسهم التي كانوا يتدثّرون بها، والاستحواذ الميليشياوي المقرون بالتفلّت والاندفاع الطائش على مقدرات البلد المالية والعسكرية.. بل وصل بهم الأمر إلى تفريغ البنك المركزي من أصوله الثابتة والمتحوِّلة، والاعتداء على العملة الوطنية تحت مسمى المجهود الحربي، وصولاً إلى تجفيف المنابع المالية الإيرادية المنضبطة بقوانين الدولة المخطوفة، وحتى التصرف غير المسؤول بالعملات اليمنية والأجنبية، فكان أن خسر البنك المركزي اليمني كامل الرصيد الاستراتيجي من العملات الصعبة الذي كان قبل الانقلاب يُقدر بما لا يقل عن 11 مليار دولار، 30 في المائة منها في إيداعات بنكية خارجية، لمصلحة التدوير المالي المُشخْصن في عتاة النظام السابق من الأوليغارشيا المالية النهَّابة؛ كما فرضوا أتاوات وجبايات غير شرعية على المستثمرين والتجار والمواطنين، الأمر الذي ألزم الشرعية اليمنية مُكرهة، على نقل البنك المركزي إلى عدن، وتولِّي مسؤولية تأمين الرواتب، وما يتّصل بالحد الأدنى من الميزانيات الجارية للمؤسسات المتبقية من الجسد المنهوش للدولة السابقة، وتوفير الحد المعلوم من خدمات الماء والكهرباء والطاقة بعامة، وبتعاون ناجز وشامل من قبل التحالف العربي، وفي المقدمة الإمارات العربية المتحدة التي سعت بكل الجهد في تأمين تلك الخدمات، وتشغيل المرافق الصحية والتعليمية في المدن المحررة.
فقد قدمت الإمارات خلال محنة الحرب والمتاهات، مساعدات مباشرة قدرها 6 مليارات ونصف المليار درهم إماراتي (نحو ملياري دولار)، توزَّعت على مجالات الطاقة والتعليم والطب والغذاء والدواء، وغيرها من المجالات، فيما طالت المدن والقرى والمناطق النائية.
لقد انعكست كامل هذه التدابير إيجاباً على حال المواطنين المتواجدين في المناطق المحررة من الميليشيات، فيما ظل مواطنو المناطق الميليشياوية الانقلابية يعانون الأمرين، فوقعت الواقعة الأكثر صعقاً وإيلاماً على سكان العاصمة صنعاء، واكتشف العسكريون من الجيش والحرس الجمهوري والأمن والشرطة، أنهم وللشهر الخامس على التوالي، لا يتسلمون رواتبهم الشهرية، بمقابل ارتفاعات غير مسبوقة في الأسعار، وانتظار عوائلهم لما يسد رمقها.
ورأى الموظفون العموميون في عموم المناطق الواقعة تحت سيطرة الميليشيات كيف يتبارى تجار الحرب الجُدد في شراء المنازل والأراضي بأثمان بخسة، مُستغلين حاجة الناس لتدوير حياتهم اليومية بأي ثمن، كما شاهدوا درجة الفجور المالي الميليشياوي الذي تخطَّى عتبات الدولة، ودمَّر نواميسها وقوانينها، وانتهك الأعراف الحميدة، ويتحسَّر العسكريون الموجوعون بالتهميش على الحقيقة التراجيدية لما آلت إليه أحوالهم، حتى إن الصحوة القائمة الآن ليست إلا ترجماناً لصحوة الضمير الحي الذي لم يعد يثق بالأقوال الديماغوجية الفارغة، بل في الأفعال الماثلة على الأرض.
اليوم تحتدم معارك العد التنازلي المؤكد في مأرب وبيحان والعيسلان، وفي تعز الخاصرة، وصنعاء العاصمة، وامتدادات الساحل التهامي الأكثر تعبيراً عن خساسة المراتبية السلالية البغيضة؛ وتسجل الإحصاءات والمؤشرات انحسارات متتالية للميليشيات الحوثية، بالترافق مع تخلِّي فرق بكاملها من الحرس الجمهوري والأمن المركزي والشرطة العسكرية عن خوض المعارك نيابة عنهم، وتماهياً مع خطابهم المُنكشف، وحتى في المستوى الأكثر تضيُّقاً والمرتبط بالحوثيين. يجري الأمر ذاته على نسق متتابع، فقد مال بعضهم إلى النأي بالنفس عن معركة إيران الخاسرة في اليمن، وأدركت الأغلبية العظمى منهم أن مصير اليمن مرتبط أساساً وجوهراً بعمقها العربي في الجزيرة العربية والوطن العربي الكبير، كما أدركت فداحات ما آلت إليه الأمور في العراق المفتت، وسوريا النازفة المُهجَّرة.
لقد أثبتت التدخلات الإيرانية أنها تدخلات لا تفضي إلا إلى الدمار، وتمزيق اللحمة الوطنية القادمة من أعماق التعايش والتواشج التاريخيين، وإلغاء أركان الدولة، وتسييد النفعيين من لصوص المال العام، المتدثرين بأردية ونياشين الدولة الفارغة من محتواها.
ذلك ما كان يُراد لليمن أيضاً، لولا لطف الله، والصحوة العربية المبكرة، والنهوض الوطني اليماني الرافض لمغادرة الهوية والكيان والتاريخ.
ما يجري الآن تأكيد على قوانين التاريخ، ومعنى الهوية، والتحاق المزيد من الأفراد والجماعات بمشروعية المستقبل لا يعني بحال من الأحوال مساندة هذه الترويكا السياسية أو تلك، بل القناعة باستعادة الدولة المخطوفة. -
*صحيفة الخليج