ما أن نزل خبر استشهاد الشهيد الخالد العميد/احمد يحي الابارة عليّ كالصاعقة في قصف جوي خاطئ من قبل طيران التحالف استهدف معسكر 23 ميكا بمنطقة العبر في عملية لا تزال تفاصيلها المروعة غامضة حتى اللحظة..انفجرت قريحة الشعر بداخلي،وزلزلت الحادثة وجداني،فبكيته ورفاقه الذين استشهدوا معه شعرا ونثرا؛ولكنني حينما قررت الكتابة عنه،وجدتني شبه عاجز،وربما تأخرت كثيرا،ولا ادري ما الذي اعتراني:هل هي هول الصدمة ؟!أم فداحة الحادثة المروعة ؟! ومع مرور الوقت وجدتني استعيد توازني من جديد حيث بدأت رويدا رويدا امسك بالكتابة.
كنت لا أزال صبيا يوم التقيته للمرة الاولى في منزله في الحرف _عزلة الابارة برفقة خالي الرائد/رضوان الفقيه .. وكعادتهِ أرسل نظراتهُ الحانية والفاحصة في مجال مجلسه المكتظ بالرفاق،وما أن حطّ بصره عليّ ناداني "يا ولد_ما اسمك" ؟فأجبته, رحب بي ،ومن ثم دعاني فأجلسني بجواره وقد ارتسمت على وجههِ ملامح الدهشة ووضع يده على كتفي ولايزال يطرح الاسئلة عن عمري،وفي أي صف ادرس،وعن مستواي الدراسي،وقد كنت حينها في الصف الخامس الابتدائي،وللمصادفة مع ابنه الاكبر برّاق.
بَقيِتْ يدهُ على كتفي،وقد انقطع كليا عن العالم المحيط به،حتى شعرت أنني استثناء،وظل يحدثني عن والدي..أخبرني "ان والدي كان رفيقه في الجبهة الوطنية،وكيف ناضلا سويا في سبيل الحرية والوحدة والديمقراطية"وسرد لي بعض القصص لا يتسع المجال لذكرها هنا.
أخذ تنهيدة من أعماق أعماقه وقال بصوت تملئه الغُصّة "كان والدك مناضل حقيقي،وله مكانة خاصة في وجدان رفاقه،وهو أحد ضحايا النظام البائس الذي نتمنى ان لا يطول عمره كثيرا"انزل يده من على كتفي واستدار نحوي وسمّر عيناه في عيني وقال:"يا ولدي إذا أردت ان يكون والدك فخورا بك فعليك بالتعليم؛فبالتعليم تنهض الأمم وتتغلب على جميع مشكلاتها".
كانت نظراته الحانية،ونبرة حديثه الجيّاشة،وشعوره الدافئ والصادق تجاه صبي لم يتجاوز الحادية عشرة من عمرة تعني لي الكثير والكثير..
كان الشهيد قائد ذي كاريزما يعرف جيدا كيف يلهب الحماس والامل في نفوس من حوله؛ ثقافته الواسعة،إعتداده بنفسه،خبرته الكبيرة في الحياة، كرمهُ، تواضعه وإدمانه بساطة العيش جعله قريبا من الناس وهمومهم .
ترك اللقاء الأول به أثرا كبيرا في حياتي،فمنذ اللحظة الاولى أدركت أنني أمام شخصية غير عادية،شخصية لم أألفها من قبل،وللإنصاف من بعد أيضا.فلقد أستطاع ان يبقى المثل الاعلى لكل من حوله من ذويه،اصدقائه،رفاقه ،محبيه ،وخصومه أيضا..وساهم بشكل رئيس في بناء الوعي وصقل المواهب في منطقته وحيثما حلّ وارتحل.
توالت اللقاءات به في مجلسه الذي كان بمثابة منتدى ثقافي وفكري،وفي كل لقاء يزداد تعلقي به،إذ أصبح صديقي الاول على الرغم من فارق السن،صحيح لقد تمكن العمر والشيب في السنوات الاخيرة منه لكن روحه بالعكس من جسده ظلت ألِقه،متوهّجة،مفعمة بالحيوية والنشاط كشاب ثلاثيني.
على طول سنوات حياته الزاخرة بالمنجزات،النضال الدؤوب،القراءة النهمة، استمر على نفس الوتيرة من الألق كشخصيةٍ اجتماعيةٍ فاعلة ومؤثرة في محيطه الاجتماعي ومثقف نابه وسياسي مخضرم.
مرت الأيام وشاءت الحياة ان نفترق؛ففي العام 2004م التحقت بمعهد خفر السواحل في عدن وأثناء التخرج في العام 2006م تم اختياري لإلقاء القصيدة في الحفل الختامي وقد حضر الحفل حضرة الدكتاتور صالح ونخبة من رجال دولته،أتذكر جيدا كيف انتقيت كلمات القصيدة بعناية إذ لم اتطرق لشخص الرئيس بالثناء التي عادة ما تطاله في الكرنفالات الرسمية.حاول مدير المعهد إقناعي امتداح رئيس الجمهورية لكنني لم استطيع، حذرني انه لن يتم اختياري لكنني صمدت،في الاخير تم اختيار قصيدتي مع قليل من الحذف فأهديتها للخريجين والطاقم التعليمي في المعهد. لقد عشت في مأزقٍ حقيقي إذ لم ازل شابا في مطلع العشرينيات،وخبرتي السياسية لا تزال في بدايات تشكّلها،بالإضافة الى انني معارض منذ نعومة أظافري للنظام..ألقيت القصيدة وأخذت اجازتي وعدت الى صنعاء،واثناء تواجدي في صنعاء اخبرني أحدهم ان الشهيد يريد رؤيتي وما ان زرته استقبلني بابتسامته الساحرة،في الحقيقة لقد كانت روحه بجواري في تلك اللحظات العصيبة التي عشتها،كانت بصيرته النافذة ترى ما وراء الاشياء،بارك لي التخرج،وقدم لي كأسا من الخبرة المعتقة كالمعتاد،ونصحني بالالتحاق بالجامعة،وهو ما حصل بالفعل،وتناقشنا عن سعيه الحثيث في انفكاك ريمة عن المركز واعتمادها محافظة،وحربه الشعواء ضد الفساد والمفسدين في كل اجهزة الدولة،واهتماماته بالتنمية،واخر الكتب التي قرأها او التي يجب ان اقرأها .
الشهيد وثورة 11 فبراير 2011م :
اندلعت ثورة الشباب السلمية في الحادي عشر من فبراير 2011م من امام جامعة صنعاء، وما لبثت ان عمّتْ كل محافظات الجمهورية،وكشابٍ انتظر تلك اللحظة وعمل من اجلها اقتحمت العمل الثوري،وشاركت في معظم الفعاليات الثورية،فإذا بي أجِدُ المعلّم الشهيد الخالد في كل فعالية وساحة وخيمة ومنتدى.
اسسنا ومعنا مجموعة من طلائع شباب الثورة تكتل رواد المستقبل،وخضنا كشباب تجربتنا الديمقراطية الاولى في اختيار الامين العام والرئيس ورؤساء اللجان من خلال الاقتراع المباشر،لم يرغب بالترشح ولكنه ابدى رغبته في رؤية تجربة حقيقية كمقدمة لنشر ثقافة الديمقراطية والمؤسسية بين الشباب،وظل يساعدنا في حل الخلافات الداخلية من خلال النقاش الهادئ،والحوار المباشر بين كافة الاعضاء حتى انجزنا ما أردناه.
وقعت الاطراف السياسية المبادرة الخليجية ومُنِحَ صالح الحصانة اتذكر بانه كان من اكثر المناوئين للحصانة وفي منتدى 15 يناير وامام نخبة من شباب المشترك والثورة أخبرنا ان صالح يستطيع ان يعتقل نصف الحكومة في ليلة واحدة وان الثقة بطاغوت نكتة عالمية ،لم يكن يثق بالكثير من قيادات الجيش،وكان على معرفة شبه تامة بالمؤسسة العسكرية والغازها التي ظلت عصية حتى على احزاب المعارضة .
رتبت انا ومجموعة من شباب الثورة لمسيرة الحياة وكنت مقررا للجنة الاعلامية التي كان يرأسها وضاح اليمن عبد القادر،واثناء وصولنا الى مشارف صنعاء رن هاتفي وكانت البطارية على وشك الانتهاء فإذا به رقم الشهيد وتفاجئت بأنه مشاركا في المسيرة ومشى بقدميه معنا حتى وصلنا الى جولة دار سلم،المكان الذي اعترضتنا فيه قوات النظام وقتلت العديد من شباب الثورة ،قد يبدو الامر عاديا لكن بالنسبة لقائد عسكري متقاعد،ومثقف طليعي،وسياسي بارز بلغ من العمر ستين عاما ونيف كان يعني الكثير لي وللعديد من شباب الثورة.
لقد كان من اكثر المتحمسين للنضال السلمي،والدولة المدنية ،كان يعتقد ومعه بعض رواد الحركة الوطنية في 2011م "ان الدولة المدنية ممكنة،اذ ان في رصيدنا الوطني وحدة،وبرلمان،وأحزاب سياسية ،وصحافة،ودستور؛فقط بعض الحظ من خلال طفرة الربيع تمكننا من تحقيق ما فشل به اجدادنا منذ الف عام _الدولة الوطنية الديمقراطية_ التي يتساوى من خلالها الجميع ،دولة القانون،دولة المواطنة وتكافئ الفرص، دولة الحكم الرشيد والتداول السلمي للسلطة".
انطلق الحوار الوطني والتحق به مجموعة من الشباب،وقاطعه اخرون بحجة الولاء لشهداء الثورة،اذ جمع الضحية بالقاتل الذي لا يزال يمسك بنصف النظام،وهنا اطلق الشهيد العنان لمواهبه المختزلة في شتى جوانب المعرفة وبدأ يسوّق اطروحاته من خلال القوى السياسية الممثلة بمؤتمر الحوار ..اطروحاته في السلطة،والدولة،والعدالة الانتقالية، وهيكلة الجيش،والمؤسسات المستقلة،وقضايا المرأة،والتعليم،وقانون الانتخابات، الخ.. والتي لا يسع المقام هنا لذكرها واتمنى ان اجد الفرصة في المستقبل القريب لإشباعها قراءة وتحليلا.
من اكثر المشاكل التي واجهناها كشباب مشكلة هيكلة الجيش؛اذ اننا لم نمتلك من المعرفة الكافية لوضع رؤية مكتملة والعمل على فرضها من خلال جماعات الضغط داخل موفمبيك،وبينما كنا نقوم بالعصف الذهني في ساحة التغيير بصنعاء تبادلت الحديث انا والاخ ميزار الجنيد رئيس القطاع الطلابي للحزب الاشتراكي والناطق الاعلامي لمجلس شباب الثورة الذي كان الشهيد احد مؤسسيه وكان الحديث عن حاجتنا لخبراء يقدمون لنا رؤية عن المؤسسة العسكرية،قلت لصديقي أعرف خبراء ولكني اتحفظ على الاسماء حتى موافقتهم،وبعد انصرافي ذهبت الى الكثير من رموز الجيش الذين اعرفهم والذين يحظون بسمعة طيبة كقادة وطنيين لكنهم لم يستجيبوا نظرا لحساسية المشكلة لجميع القوى السياسية المتصارعة وخوفهم على حياتهم في تلك المرحلة الحساسة والمفصلية إذ ظلت المؤسسة العسكرية والاستخباراتية من الخطوط الحمراء لنظام صالح والتي لا يجب ان يقترب منها احد.. فقصدت مضطرا منزل الشهيد واخبرته ان اغتيالات ضباط الجيش تجري على قدم وساق،وانني اخاف ان يصيبه مكروه،وشرحت له المشكلة التي نعانيها كشباب ثورة وان كان لديه الاستعداد لتقديم رؤية ونحن سنتبناها كشباب ومجتمع مدني،فأجابني: "لا تقلق الشهادة هي الجائزة المثالية للمناضل،لا يليق يابني بالمناضل ان يخشى الموت.. فقط اعطني فرصة للملمة افكاري وحال انتهائي سأتصل بك،وابقي الامر سرا بيننا".
تمر الايام والضغط على اشده،والاحداث السياسية تدور كعجلات القطار السريع؛اتصلت به لأتأكد من انجازه الرؤيا فوعدني للغد،وهكذا استعدت في الغد وذهبت اليه فوجدت الرؤية مكتملة.لقد قام بالعديد من الزيارات لجنرالات في الجيش كان على معرفة بهم من ذوي الكفاءات وتبادلوا النقاش والخبرات والمعلومات حتى انتهى منها اذ بذل مجهود خرافي في وقت قصير وبدون أي مقابل مادي او معنوي وانما حبا وانتماءا للوطن الانسان الذي وهبه جل حياته،ومن ثم انتقلنا الى كيفية الترويج لها وهكذا اتصلت بالأخ ميزار واخبرته ان الشهيد سوف يقدم لنا الرؤية وهو مستعد لتقديمها في ندوات وعلى مجلس شباب الثورة تبني الفكرة لامتلاكهم مقر ومنتدى ودعوة النخب السياسية من كافة الاعمار والتوجهات والصحفيين والاعلاميين للتغطية،في البدء تفاجئ العديد من الشباب ان "العم احمد" كما كان يحلو لهم بتسميته هو من أعد الرؤية وسيقدمها على الرغم من معرفتهم به كمثقف وثائر ومناضل الا انهم لم يكونوا على اطلاع بتجربته العسكرية ولم يكن بطبعه محبا للكاميرا والضهور الاعلامي الا ما ندر،وهكذا شرحت لهم جزء من مسيرته العسكرية اذ أنه انخرط في العمل الجبهوي حينما كان شابا والتحق بالجيش متدرجا في الرتب العسكرية حتى وصل الى رتبة عميد وشارك في الحرب العراقية الايرانية وكان قائدا لقطاع الملاحيظ الحدودي قبل التقاعد،وهكذا اقيمت الندوة وتسنى له القاء رؤيته الوطنية العلمية لجيش وطني احترافي يؤدي مهامه بعيدا عن السياسة والولاءات الضيقة ولا زلت اتذكر مناشدته هادي سرعة القيام بحزمة قرارات من شأنها "تجفيف الولاءات والمال داخل المؤسسة العسكرية" وتسنى للحاضرين مناقشته وتقديم الاسئلة والاستفسارات حول دور الجيش في المرحلة الانتقالية والمستقبل أي ما بعد صالح .
انهارت العملية السياسية،هجّر الحوثيين السلفيين من دماج،اقتحم الحوثيين عمران،سقطت صنعاء بيد المليشيات..يحزم الشهيد الستيني احزمته ملبيا نداء الواجب،مدافعا عن الجمهورية التي خانها الحرس الجمهوري ومعه مجموعة من رفاقه الاحرار حتى لقى ربه ملتحقا بركب الخالدين "علي عبد المغني وعبد الرقيب عبد الوهاب" من احبهما حتى الرمق الاخير.
عام على مرور الفاجعة
2016/06/26 - الساعة 07:33 صباحاً
إضافة تعليق