على أبواب صنعاء.. الصفقات السرية بين الحوثيين وإسرائيل

فجر السادس والعشرين من مارس ٢٠١٥ كانت طائرات عربية تدك مواقع عسكرية فى اليمن، إيذانًا بانطلاق ما أطلق عليه «عاصفة الحزم»، لإعادة الشرعية فى اليمن بعد استيلاء «الحوثيين» على السلطة.

 

غير أن حركة السير لم تمض على طرق معبدة فى «التحالف العربى» الذى قادته السعودية إلى جانب «دول حليفة» ضمن «التحالف العربى» لم تنجح حتى هذه اللحظة فى إعادة الأمور إلى نصابها.

 

لم يعد الرئيس اليمنى عبدربه منصور هادى إلى قصره فى صنعاء، ولا تراجع «الحوثى»، ولا يزال على عبدالله صالح، الرئيس المخلوع، يرقص على «رءوس الثعابين». ثم إن وباء «الكوليرا» ينهش فى اليمن الآن مخلفًا مئات الضحايا.

 

هذه مأساة إنسانية وسياسية وعسكرية بكل المستويات، لا التحالف العربى نجح فى مهمته حتى هذه اللحظة ولا اليمنى عاد إلى حياته الطبيعية، فى بلد هدمت الحرب ما تبقى منه.

 

لماذا وصلنا إلى هذه النقطة؟

هذا ما سنحاول الإجابة عنه فى هذه الحلقات التى تتناول الوضع فى اليمن عبر سرد تاريخى يستند إلى تحقيق ميدانى عن نشأة الحوثيين وما الذى يمكن أن يفعلوه ثم نجيب عن السؤال الأصعب: إلى أين يتجه اليمن الآن؟!

 

«أنصار الله» تحصل على ١٠٠ مليون دولار مقابل تسهيل خروج ١٧ يهوديًا

رغم أن تخومًا متفرقة ومسافات شاسعة تفصل بين حدود صنعاء وتل أبيب، إلا أن الشعار الرئيسى الذى انبثقت منه الدعوة الحوثية هو «الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل.. اللعنة على اليهود»، فالجماعة لا تخفى العداء الذى تكنه لليهود، لكنها لم تمانع مطلقًا فى عقد صفقات مع الكيان الصهيونى، لتهريب يهود اليمن، حاملين معهم نسخة نادرة من التوراة، يزيد عمرها على ثمانمائة عام.

 

المصالح المتقاطعة ما بين الحوثى وإسرائيل كشفها استقبال رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، العام الماضى، لأحد حاخامات اليهود اليمنيين، وبثت وسائل إعلام محلية إسرائلية تسجيلًا للقاء رئيس الوزراء باليهود القادمين من اليمن، وهو يتصفح مخطوطة التوراة القديمة المهربة.

 

فالحاخام سليمان دهارى الذى وصل مع والديه وزوجته يرتبط بشكل أو آخر بتنظيم الحوثيين، إذ تداولت وسائل التواصل الاجتماعى من قبل صورًا له وهو يحمل بندقية عليها شعار الحوثى، واحتفت به القوات التابعة للحركة كمقاتل ضمن صفوفها.

 

الشعارات الرنانة لم تقف حائلًا أمام الصفقة الرابحة، التى حصل «أنصار الله» بموجب بنودها غير المعلنة على نحو ١٠٠ مليون دولار، مقابل تسهيل خروج ١٧ يهوديًا، وتضمنت العملية إلى جانب المخطوطة النادرة للتوراة، صفقات سلاح تم تسليمها عن طريق العصابات.

 

الرحلة «المباركة» التى أشرفت عليها أجهزة مخابرات دولية، وتمت بالتنسيق مع الوكالة اليهودية، فتحت ملفًا آخر اتجهت أصابع الاتهام فيه للحوثيين، فيما يتعلق بتهريب الكنوز الأثرية اليمنية، والمخطوطات النادرة، مقابل الحصول على أموال طائلة لتمويل عملياتهم العسكرية.

 

أرشيف التاريخ يفضح الأيادى السوداء للأئمة والمملكة المتوكلية اليمنية، التى ينحدر من سلالتها الحوثى، فقد تمت صفقات مماثلة مع إسرائيل لتهجير اليهود فى عهد الإمام يحيى حميد الدين، وتم ترحيل ما يقرب من ٥٠ ألف يهودى يمنى فى عملية هى الأشهر والأكبر فى تاريخ المنطقة العربية، التى عرفت باسم «بساط الريح»، أو كما يطلق عليها الغرب عملية «على جناح النسر».

 

وتقول المصادر إن اسم عملية «على جناح النسر» أتى من فقرتين من العهد القديم، فى سفرى الخروج وإشعياء، هما: «أنتم رأيتم ما صنعت بالمصريين، وأنا حملتكم على أجنحة النسور»، «وَأَمَّا مُنْتَظِرُو الرَّبِّ فَيُجَدِّدُونَ قُوَّةً، يَرْفَعُونَ أَجْنِحَةً كَالنُّسُورِ، يَرْكُضُونَ وَلاَ يَتْعَبُونَ، يَمْشُونَ وَلاَ يُعْيُونَ».

 

ملامح الصفقة السرية تشكلت عام ٤٨، عقب الاحتلال البريطانى لجنوب اليمن، حيث عملت الوكالة اليهودية عبر وساطة بريطانية على إقناع الإمام بالسماح لليهود بالهجرة، مقابل أن تؤول ممتلكاتهم من أراض وغيرها إلى الدولة الإمامية.

 

وتم بالفعل نقل اليهود بتمويل من أحد البنوك الإنجليزية، عبر جسر جوى إلى إسرائيل، وبلغت تكاليف هذه العملية حوالى ٤٢٥ مليون دولار، وتبع ذلك موجات ثانية لإجلاء اليهود فى عهد الإمام أحمد، بين عامى ١٩٤٨ و١٩٦٢.

 

لم تكن «بساط الريح» رغم أهميتها هى المحاولة الأولى لاستقطاب يهود اليمن، إذ سبقتها عمليات أخرى قبل إعلان دولة إسرائيل، وفى عام ١٩١١ توجه نحو ١٠٠٠ يهودى يمنى إلى أرض الميعاد الصهيونية، ليشكلوا الرعيل الأول للكيان الجديد.

 

مع قيام ثورة الحادى عشر من سبتمبر عام ١٩٦٢، توقفت عمليات ترحيل اليهود، فى ظل علاقات قوية جمعت النظام الجمهورى باليمن مع الرئيس عبدالناصر فى مصر، لكنها عادت مرة أخرى فى التسعينيات من القرن الماضى، حين تم تهجير نحو ٨٠٠ يهودى بضغط من حكومة إسحق شامير.

 

نقل أقدم المخطوطات العبرية إلى الدولة الصهيونية من قبل «المتمردين»

إرهاصات الوجود اليهودى غير معروفة، وذاكرة التاريخ تحمل روايات متباينة، بعضها يرجع إلى ثلاثة آلاف سنة، وتحديدا لعهد الملكة بلقيس، التى تزوجت نبى الله سليمان عليه السلام، وتذهب أخرى إلى أن الملك التبعى أسعد الكامل، حين زار الكعبة، والتقى أحبار اليهود فى يثرب، جاء بمجاميع منهم إلى صنعاء، فيما ينسب يهود اليمن بداية نشأتهم إلى النبى إرميا، الذى أرسل سبعة آلاف وخمسمائة يهودى من أرض كنعان إلى أرض اليمن.

 

رغم غموض الروايات وتعددها، إلا أن ذلك لا ينفى أن اليهود كانوا جزءا من التركيبة السكانية والنسيج اليمنى تاريخيا وثقافيا، وهناك آثار تعود إلى القرن الثانى الميلادى «عهد مملكة حمير»، تؤكد أن ترك الحميريين لتعدد الآلهة، واعتبار «رحمن» إلها أوحد، حدث نتيجة تأثرهم باليهود.

 

ويعود أقدم وجود فاعل لليهود إلى زمن الحاكم اليمنى ذى نواس الحميرى بين عامى «٤٦٨ م – ٥٢٧ م»، وهو الملك الذى اعتنق اليهودية وقابل بعنف محاولات الرومان نشر الديانة المسيحية، وتنسب إليه محرقة «نجران»، التى قام من خلالها بإحراق المسيحيين فى أخدود عظيم، وفقا لآراء بعض المفسرين حول سورة «البروج» فى القرآن.

 

لليهود اليمنيين إرث ثقافى ذو مفردات خاصة، تميزه عن باقى اليهود فى النواحى الدينية، والموسيقية، والعادات والتقاليد الاجتماعية، وأقدم المخطوطات العبرية التى تم نقلها مؤخرا عبر صفقة الحوثى إلى إسرائيل، يحوى كثير منها تعليقات وشروحات بالعربية عكس الشرح بالعبرية المتعارف عليه بين معظم اليهود الآخرين.

 

حضور اليهود كجزء أصيل من الثقافة اليمنية انعكس بشكل واضح من خلال قصائد الحاخام شالوم بن يوسف الشبيزى، الذى عمل خياطاً، وكتب الشعر باللغتين العربية والعبرية، لكنه كان بارعًا بالأولى، ووضع كتاب «الديوان»، الذى احتوى على ٥٥٠ قصيدة، فصل فيها عادات وتقاليد وأعراف وسلوكيات المجتمع اليمنى، ولايزال اليمنيون، يهودا ومسلمين، يترددون على قبره فى تعز حتى الآن.

 

وقد حاولت إسرائيل أكثر من مرة عبر وساطة أمريكية نقل رفاته إلى تل أبيب، إلاّ أن يهود اليمن ومسلميها رفضوا بشدة، فما كان منها إلا أن أطلقت اسمه على أحد أكبر شوارع العاصمة الإسرائيلية.

 

ولأن الذاكرة الجمعية للشعوب أقوى من كل القرارات الرسمية، فلايزال اسم «قاع اليهود» عالقًا بأذهان أهل صنعاء، رغم تغيير مسماه الرسمى إلى «قاع العلفى»، و«قاع اليهود» حسبما كتب المؤرخون، بدأت كمنطقة تجارية، ثم تحولت إلى مبان سكنية، توزعت إلى ٢٠ حارة، ولكل حارة كنيس «معبد» أو اثنان، حتى وصل عددها إلى ٣٩ معبدًا.

 

بعيدًا عن فترات الاضطرابات، سمح لليهود تحت مظلة الدولة الإسلامية، عبر عصورها المختلفة، بممارسة طقوسهم الدينية، طالما التزموا الجزية، وتركزت أنشطتهم بالتجارة، وبعض الحرف، مثل صياغة الذهب والفضة وصك العملات، وانحصر وجودهم بالمنطقة الشمالية، مثل صعدة وعمران والعاصمة صنعاء.

 

«عقيدة الاصطفاء» تجمع بين اليهود والحوثيين.. و«الشتات» يلهم الاثنين

يذكر اليهود اليمنيون بعض المحاولات لطمس هويتهم عبر قانون أقره الأئمة الزيدية، يكفل تبنى أيتام اليهود وتربيتهم على تعاليم الإسلام، ويعتقدون أن هذه السياسة كانت سببا رئيسيا فى تحول كثير من اليهود إلى مسلمين، دون أن يعرفوا شيئا عن أصولهم اليهودية.

 

مع بداية نفير الحرب فى صعدة منتصف ٢٠٠٤، قامت جماعة الحوثى بطرد أكثر من سبعين فردًا من منطقة «آل سالم»، وتم ترحيلهم من جانب حكومة صالح إلى صنعاء، مع توفير دعم مادى وغذائى لهم.

 

ومع تصاعد المد الحوثى فى عام ٢٠٠٧، تم ترحيل يهود «آل سالم» إلى العاصمة اليمنية، بعد توزيع منشورات فى قريتهم، تمهلهم أياما فقط للمغادرة، قبل أن يتعرضوا للإيذاء.

 

وتداولت صحف ووسائل إعلام السلطة أيام على عبدالله صالح ما تعرض له يهود منطقة آل سالم بصعدة على يد قائد الحوثيين هناك يحيى بن سعد الخضير، وجاء فى موقع ٢٦ سبتمبر أن الخضير أمهل الأسر اليهودية عشرة أيام للمغادرة، بعد أن «ظهر جليا أنهم يقومون بأعمال وحركات تخدم الصهيونية العالمية».

 

ونسبت الصحف إلى الخضير قوله: «أما أنتم معشر اليهود، فالإفساد هو ديدنكم، وليس غريبا فى حقكم، فتاريخكم يشهد بهذا، وحاضركم يشهد»، الحوثيون نفوا أن يحيى الخضير قام بتهديدهم، إلا أن حاخام اليهود اليمنيين يحيى آل سالم أكد أن من قام بتهديدهم كانوا من الجماعة.

 

وقبل ذلك، شهد شهر نوفمبر من العام ٢٠٠٧ أزمة كبرى تتعلق بيهود اليمن فى ريدة بمحافظة عمران، حين تزوج الشاب اليمنى المسلم هانى على هادى سران من فتاة يهودية تدعى نينوى سليمان يحيى داوود، وتكررت الأزمة عندما اتسعت دائرة الحرب، وقتل المعلم ماشا النهارى فى ٢٠١١، مما أسهم أيضًا فى عملية التهجير القسرى لليهود، واستؤنفت رحلات الهروب بين سكان ريدة.

 

فى أعقاب دخول الحوثيين صنعاء وتردى الأوضاع، اختفت الزنانير التى كانت تميز يهود اليمن، واقتربت هويتهم من الاندثار، فالمتشبثون بالأرض وعروبتهم اليوم منهم، لا يزيدون على ٥٠ يمنيًا، يعيش نحو ٤٠ منهم بصنعاء، يمثلون الظلال الأخيرة من الوجود اليهودى التاريخى فى اليمن.

 

ثمة خيط رفيع وتشابه عقائدى يجمع ما بين طرفى المعادلة، هو عقيدة الاصطفاء، فبينما يدعى اليهود أنهم شعب الله المختار، يزعم الحوثيون أن الله اصطفاهم وفضلهم على العالمين، اليهود تجاوزوا عهود الشتات، بينما يحمل اليمنيون أسفار شتات آخر، لايزالون يتعثرون فى الفرار منه.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص