بقلم / منصور السروري.
ذات ليلة ترك عندي إضبارة كبيرة تعج بأوراق اشتملت على تدوين أفكاره فاعتقدت أنه قد نسيها، ولما لم يعد واختفى عن أنظار المدينة، وتباينت عن مصيره الإنباءات.
فبين خبر يقول إنه على إثر فقدان عقله أدخله أقاربه مصحة خاصة بالأمراض النفسية، وبين نباء مفاده أنه صحيح قد جن ولجأ لمدينة أخرى، وهناك روايات تخبر عن نهايات ولكن بحكايات مختلفة فثمة نهاية تقول إنه وجد مقتولا بسائلة العاصمة الشهيرة، وأخرى تقول أنه لم يك مقتولا برصاص أو غيره وإنما مدهوسا بسيارة لاذ صاحبها بالاختفاء.
كثيرة هي النهايات التي لاكتها الألسنة عنه، وإذا ما تساءل شخص عن السبب لا الكيفية لمقتله فسيسمع ضمن ما يروى أنه كان يحب امرأة أجبرها أهلها على الزواج بمسئول عسكري كبير، وقبيل اختفاءه ببضعة أشهر شُهد مرات عديدة وهو إلى جانبها بسيارتها الفورد بأكثر من شارع وبملابس نظيفة أنيقة كسابق عهده حين كان طالبا بقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة، وثمة من يقول إنه ظل يتردد عليها في فيلتها عندما يكون زوجها مسافرا، أو يقضيا ساعات الحب في فنادق دونما يتطرق الشك لحقيقة العلاقة بينهما لكونه يحمل بطاقة عائلية باسميهما ، ولما شك الزوج بالأمر ارتاب من شيوع الحكاية فدبر خطة للتخلص منه.
وأغرب القصص التي رويت عنه تلك القصة التي تحكي أنه كان يعمل لصالح سي آي آيه (Central Intelligence Agency (CIA (وكالة المخابرات المركزية)، حيث استقطب للعمل مع الأمريكان على إثر مجموعة مقالات نشرتها صحف يمنية تصدر باللغة الإنجليزية أعادت صحف ومواقع أمريكية نشرها، وهي كتابات افصحت عن إحاطة بتاريخ الجماعات الإرهابية، وتطورها وكيفية مواجهتها للحد من خطورتها، وأن السفارة الأمريكية بصنعاء من حينها اعتبرته مهما بالنسبة، وتطورت علاقتها معه لحد أنه استقطب للعمل مع سي آي آيه،
ولما وجد تنظيم القاعدة أن ما ينشره من تحليلات بشأن أعماله الإرهابية يلامس بقوة حقيقة خفايا وأسرار أهداف التنظيم سارع بمراقبة تحركاته واغتياله.
وهناك نبأ بلغني صدفة من شخص قابلته صدفة بمقهى ذكرني بأنه كان قد جمعنا مقيل عرس قبل بضعة أعوام، وعندما سألته: ما إذا كان لديه أخبار عن عبد الموجود؟
فأفاد إنه ليس من قريته، وإنما من قرية مجاورة له، ومعرفته به لا تزيد عن كونها معرفة زمالة محدودة أثناء سنوات الدراسة الابتدائية، حيث افترقا وتقاطعا ومضى كل إلى غايته، وإن جمعهما لقاء ما فليس إلا من قبيل الصدف العابرة كمناسبات التعازي والتهاني.
غير أنه أفضى لي بسر شديد الخصوصية عن أسرة عبد الموجود، وهو أنها أسرة غير طبيعية، معظم أفرادها يمتازون بذكاء حاد، وتجدهم ينجحون في حياتهم ويحققون أهدافهم في غضون فترات قياسية قبل بلوغهم سن الأربعين حيث يطالهم جنون وراثي مؤقت"
وأضاف " أخشى أن يكون عبد الموجود قد أصيب بذات المرض... فتجد كل فرد من الأسرة يحسب عمره بدقة حتى إذا فصلته عن بلوغ الأربعين عاما أياما معدودات يسارع بالتواري عن الأنظار ويفر إلى أسرته في القرية التي تحرص على إبقاءه في معزل عن كل شيء كان يحيط به، وبعد عامان وقد تصل المدة لأعوام ثلاثة يعودون من جديد لمواصلة حياتهم، ............
ورغم أن هذه المعلومة بدت الأقرب للصدق بيد أنها بالنسبة لي مع غيرها من الروايات لم ترقى إلى معاقرة الحقيقة المؤكدة عن مصيره المجهول الغامض، ولذا كان على أن أعود إلى تلك الاضبارة التي اعتقدت أنه قد نسيها عندي فلعلها تنطوي على سرما.
وقد اضطررت الليلة
وبعد انصرام عامين على اختفاءه أعتقد أنني اضطراريا آن اللحظة قد أذنت لفتح الاضبارة، وهأنذا أتناول صفحاتها(*) الأولى وأشرع في قراءتها كما ما يلي:
الصفحة (1)
وجدت مكتوبا في أعلى الورقة
الصداقة هي واحدة من القيم العظيمة التي دقنت في مقبرة المطامع المادية الرخيصة.
أسفل الورقة
رفيقي العفريت
لأنك لست من أولئك الذين يدفنون الصداقة في مقابر المطامع المادية الرخيصة ... اترك عندك هذه الصفحات العاجة بفوضى الوعي......... إن عدت سأخذها منك، وإن انقضى على غيابي وقت غير قصر فلك مطلق التصرف فيها كما وكيفما تشاء.
أخوك(............).
الصفحة (2)
من حسن الحظ أن الأحزان ليست أزلية، وإلا لتعذرت الحياة فليس في وسع إنسان تحمل معاناة الأحزان لعام كامل.
الصفحات (3/4)
كثيرة هي الأسئلة التي كان دوماً يعرضها على مرآة وعيه، وقد يهتدي إلى وضع الأجوبة عليها لكنها سرعان ما تتفلت من معاقل ذاكرته، وتنسى، ولا يستطيع استحضارها ثانية بفعل اللاستقرار، وتقلبات حياته إلى الأسوأ دوما بعلة التفريط بعمله كمدرس للأطفال.
ومن بين استفهامات لا تحصى فقد أغلبها في معاطف الأيام والأسابيع والشهور والسنوات المنسلخة من عمره ما عدا أسئلة من بينها تلك التي تمحورت حول الحياة والكون والزمن.
كثيرا ما سأل نفسه:
ما لفرق بين الزمن والكون؟
وما لفرق بين الزمن والحياة؟
وما الفرق بين الكون والحياة؟
على السؤال الأول يجيب بسؤال (لماذا لا يكون الكون هو الزمن؟ لأن الزمن يتمدد دونما يتوقف إلا بانتهاء الكون).
أو العكس أي لماذا لا يكون الزمن هو الكون؟ لأن الكون حينما ينتهي سيتوقف الزمن عن التمدد.
وعلى السؤال الثاني يجيب بسؤال (لماذا لا تكون الحياة هي الزمن؟ لأن الزمن يتمدد دونما يتوقف إلا بانتهاء الحياة).
أو هل يمكن أن يكون الزمن هو الحياة؟ لأن الحياة حينما تنتهي سيتوقف الزمن عن التمدد.
على السؤال الثالث يجيب بسؤال (لماذا لا يكون الكون هو الحياة؟ لأن لا حياة دون كينونة، لا كون أو كينونة دون حياة).
وداخل دائرة إعمال الفكر واشتغال الخيال كان غالبا ما يحلق في فضاءات الرؤى المتيحة له زوايا يعاين من خلالها ليس فحسب العلاقات الثنائية تارة والثلاثية تارة أخرى بين هذه العناصر الثلاثة الحياة والزمن والكون، بل وتمده بإدراك الأسرار المتحكمة بمضامين ماهيات العلاقة بين هذه العناصر.
وغالبا ما كان يتوصل إلى ما يشبه الهذيان فيشاهد بمناظير التحديق العقلي حينما يحلق في فضاءات الرؤى يشاهد ما لا تدركه القلوب المعتمة.
يشاهد أن الحياة منذ صفر التكوين حتى نقطة الانفجار مرت عبر محطات (الولادة، النمو، والتطور، الفناء).
ولادة الحياة، نمو الحياة، تطور الحياة، انتهاء الحياة.
كل الأشياء تمر عبر هذه المحطات الأربع.
ويشاهد أن الزمن انطلق مسافرا من صفر التكوين حتى نقطة الانفجار وفي ثناءاته تشكلت مستوية المحطات الأربع (الولادة، النمو، والتطور، الفناء).
ويشاهد أن الكون ليس فقط إطارا متناه تتبروز داخله الحياة والزمن وإنما هو الكل (أي كل الحياة كل الزمن)، وبتعبير أخر الكون هو الإحاطة الشاملة بزمن الحياة وحياة الزمن.
وأحيانا كان يبتسم وهو يثقب بوعيه عتمات الليال والغرف التي مر عليها لكأنه أفحم معارضا رفض أطروحاته هذه من قبيل أنها لا تتفق مع فهومات علمية أو دينية.
يبتسم ويهز رأسه ولسان حاله يلوك بصمت جملة ستكون جملته الشهيرة في إفحام معارضيه (يا عزيزي لست ملزما بالأخذ بما سبقني من تعاريف للأشياء، فهذا يجعلني نسخة مكرورة، ناهيك عن كونه يمحي وجودي، ويطمس وعي لما استقرت حقائق الأشياء عليه مفهومة بكل تجلياتها الحسية والمعنوية).
وفي جل مطارحاته الذاتية يؤكد أن أركان مثلث الوجود هي فقط الحياة والزمن والكون، ويرفض اعتبارالانسان عنصرا رابعا فهو رغم كونه المحور الفاعل في الوجود غير أنه كائنا يؤلف إلى جانب بقية الحيوات المختلفة كل مظاهر الحياة.
وحتى لا أطيل في سرد الأوراق أوجز أنه يتوصل إلى تعريف الوجود بالتالي:
الوجود هو مجموعة الاشكال المختلفة الأحجام والمضامين لكل من الحياة والزمن والكون.
وكل ركن في هذا المثلث يمر بمحطات (الولادة، النمو، والتطور، الفناء).
ويخلص بعد جدول بين فيه العلاقة بين عناصر الوجود الثلاثة ومحطاته الأربع إلى أن الأنسان هو المركز الذي تمحور حوله، ومنه كل الأشياء من ماديات وروحيات، والطبيعي أن كل شيء يولد وينمو ويتطور ويفنى، واللاطبيعي أن ليس ثمة شيء موجود ليس له ولادة، أو ولد ولكنه لم ينمو أو فُني قبل أوانه أو ولد ونمى لكنه لم يتطور... وهنا مربط الفرس (كما هن مكتوب داخل قوسين) ...............الخ.
يقول (هنا .......... يجب على الانسان أن يعالج اللاطبيعي من وفي حياته).
لأن الطبيعي ليس ثمة مستثنى من المرور في المحطات الأربع حتى اللاماديات / كل المعنويات والقيم الأخلاقية، والحضارات البشرية تولد وتتوالد وتنمو وتتطور وتفنى فالأشياء كلها تأتي لكنها لا تبقى في وجود متجدد حتما سيفنى.
............................................
صفحات أخرى سأتي على تلخيصها، ونشرها كلما فهمت تماما جوهرها...............