زخات متناثرة عن الراحل مع فجر الوطن... صهيب الحمادي...!!!
2018/04/12 - الساعة 06:40 مساءاً
يوم كئيب هذا الذي فارقتنا فيه يا صهيب بل سيبقى عنوانا لكل أيام الغرابة والكأبة في كل ماتبقى من حياتنا نحن الذين لم نفترق منذ 18 شهرا.
يوم مضت أصداؤه نحو كهوفِ الذكرياتِ وغدًا ستمضي كما كانت حياتنا.
شفةٌ ظمأى وكوبُ لن تعكس أعماقُهُ سوى لونَ الرحيق كلما لمستْهُ شفتاي لن تجدْ من لذّةِ الذكرى بقايا غير بقايا عام ونصف العام لم نفترق أيامه سوى أيام معدودات.
أبكل هذه البساطة تختفي في وادي السرابِ؟
الفجر لم يحن بعد حتى تغادرنا قبيل انبلاج صباحه المنتظر.
كنت دوما المنتظر من حياتنا بالمخيم ... فكيف استعجلت الرحيل دونما استئذان منا ؟
دونما إشعار مسبق من أنك سترحل إلى حيث لا عودة ؟
لماذا دون اضطرابِ تركتنا...هناك فوق أفياء شبابك، وعند تلِّ الذكرياتِ ، وفوق آلافٍ من الساعاتِ ... هكذا بلحظة صامتة تاههت في الضَّبابِ، في مَتاهاتِ الليالي العابراتِ ؟!؟!
يا له من يوم أسود وغريب هذا الذي مضيت فيه بعيدا قبيل الأوان !!!
ان تدق الساعةُ الكَسْلى وتُحصي لَحظاتك، وإنه لم ولن يكُ يومًا من حياتك.!!!
يا لصوتُك الحُلْوُ الذي ضاع فجأة حينما أحدقتِ الظلمةُ بالأفْقِ الرهيب، وامّحتْ حتى بقايا ألمك, حتى اوجاعك الصامتة التي لم لطالما نصحتك أن تحذر منها خاصة بعد أن طالتك تلك الوعكة الصحية قبل شهر فلم تكترث لنصحي لتمتحي من أمام أعيننا ويمتحي صوتُك حبيبنا صهيب.
هاهي ذي كفُّ الغروب تحمل أصداءك لمكانٍ بعيييييدة عن أعينِ القلوب، إلى حيث لن يبقَ سوى الذكريات وحبّنا وصدى يومٍ كئيب كشحوبنا.
عبثًا نضرَعُ أن يُرجِعَ لنا الله صوتك يا صهيب.
ما لا تعلمه أن رحيلك المفاجئ نقش الرعب والحسرة في كل العيون التي لا ترى فيها سوى صورا تبكيك وترثي الوطن المكلوم وهذا العالم المغرور.
هأنذا أقرأ في كل الأعين التي زارت جسدك المسجى بتابوت زفافك الأخير إلى أبدية أخرى سخرية العيش من دنيانا الملعونة.
آه يا ربّ آه لو يفهم الأحياء ماذا في أعين الأموات !؟
أه كيف رحلت يا صديقي....؟!!!
رحلت والخصام والشرّ على أرضنا مزهران ، والأناشيد الجميلة تفنى لكأن المقادير شاءت ليمننا إلاثم والشقاء والحروب، و أنفسنا تحمل الشرّ والبغض وليس يفيدها التهذيب ولن تستفيد مما يجري في أيامنا.
كم تّغنى بالسلم والحبّ والرحمة الشعراء والفلاسفة ، لكن بكل الأسف تضيع الأغاني دونما تبقى لنا أمامنا سوى ضّجيج القتال العنيف وازدهار مواسم ولائم الموت الغزيرة.
فيا لهذا اليمن المعذب في أغلال الشرور والأذى والأثام ما ينفك يعاقرها عبر كل الأزمان.
***
يا لهذا الوطن المغدور به من أبناءه قبل أشقاءه وجيرانه واصدقاءه.
وطن لا تقوى كل الأوصاف لكل أضراب البلوى أن توصف ما حل به من بليات وأثافي ودواهي .
يكفي أن صهيب علي عبد الجليل الحمادي... ذهب قبيل شهر إلى مشفى من تعز لإجراء فحوصات طبية عن وعكة غريبة ألمت به ونحن في المخيم فجاء الفحص أن صحته سليمة.
رقد يوما أو يومين بالخيمة حد ما أتدكر ونهض طبيعيا ليستأنف عمله كسائق لأحد السيارات التابعة لقائد اللواء 35 مدرع.
الطب في هذا البلد صار وبالا لا يقل عن وبال الحروب وكوارثها... بل أن ضحايا الطب في اليمن يفوق مئات أضعاف ضحايا الحروب.
هوذا صهيب يفارقنا كواحد من ضحايا الطب في يمننا المفقود الفاقد أدنى شروط العيش الكريم وأدنى شروط الحياة الكريمة.
يفارقنا قبلما يأخذ من الحياة أدنى حقوقه منها.
أه يا وجعنا عليك يا صهيب !!!
***
كان صهيب أول وجه حفظته جيدا في المخيم فقد كان أول من أقلني بتوجيه من القائد عدنان الحمادي من سوق العين إلى المخيم قبل عام ونصف العام.
عام ونصف العام تشاطرنا معا الخيمة واللقمة وحتى الملابس والفراش أحيانا عند زيادة الأفراد أو قدوم ضيوف إلينا.
عام ونصف كان صهيب أكثرنا تحملا اذا ما صرخنا وغضبنا عليه لأسباب ما بحكم مسؤوليته فلا نجده الا صابرا مبتسماً.
عرفته مثابرا مخلصاً لزملائه ولواجباته العسكرية وكقائد لأحد الأطقم الخاصة بالقائد الحمادي.
منذ أن وصلت للمخيم والعمل معهم في خدمة اللواء 35 مدرع لم اسمع عنه ولم أرى أنه قد وقع بحادث أو دحش بطقم بل ربما هو في قيادة اي سيارة بالخطوط الطويلة الأبرز بين بقية السائقين.
كنت لا أشعر بالاطمئنان عندما امتطي اي سيارة كما أشعر به عندما أكون معه.
***
حينما كانت الميليشيات الانقلابية تجتاح عدن وتعز وبقية المحافظات اليمنية يغادر صهيب مقعده بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء مع انه لم يتبق معه سوى ترم كي يتخرج حاملاً ليسانس شريعة وقانون.
ابت غريزته الوطنية إلا أن يؤجل الأشهر الثلاثة الباقية من عمر الدراسة الجامعية ويلتحق باللواء 35 مدرع على أمل أن يكمل ما تبقى من مقررات الكلية عقب انتهاء الحرب القائمة.
وحين كان العميد ركن عدنان الحمادي يعيد تجميع اللواء 35 مدرع بمنطقة النشمة بمديرية المعافر يلتحق صهيب كأحد مرافقيه.
نظير سماته الخاصة من ذكاء وإخلاص وتفان ونكران ذاته يصبح أحد اهم سائقي الأطقم الخاصة بالقائد.
حضر أغلب إن لم أقل كل المعارك التي كان القائد الحمادي يقودها أو يشرف عليها بنفسه في المسراخ والصلو وكافة الجبهات التي ينتشر فيها اللواء 35 مدرع.
وجدته ألمعيا في المطارحات التي كنا نتجاذبها طيلة مكوثنا معا في خيمتنا الخاصة.
وجدته يقدم الولاء الوطني على كل الولاءات الأخرى أيا كان شكلها الفكري والايديولوجي.
كان من أولئك الذين نصفهم بأنهم ما خرجوا للمشاركة في هذه الحرب الا من أجل القضية الوطنية المتمثلة في بناء دولة يمنية اتحادية وفقا لنصوص وثيقة مخرجات مؤتمر الحوار الوطني.
***
لا أخفي أنني كنت قلقا عليه منذ عاد من المستشفى وقال إن الفحوصات أظهرت انه لا يعاني من أي أعراض مرضية.
كان يشكو من " المتنة " وهي عبارة عن ألم يشتد في منطقة أعلى فقرات لظهر بين الكتف ومحركات اليد اليمنى.
قلت له لا ... المتنة تأتي مرة واحدة وبمجرد ما تدلك وتقرح تنتهي... هذا تقريبا العرق أو الشريان المرتبط بالقلب لابد أن تزور أخصائي قلب ضروري جدا ولا تهمل نفسك.
ومرت الايام وهو يسوف ويقول انه تشاكل وتعافا...
من تجاربي العملية عرفت كثيرين كانت تظهر عليهم نفس الأعراض ولا تلبث بضع أسابيع أن تنقضي حتى أسمع بوفاتهم.
وسبحان الله أول أمس قام بزيارة أسرته ووالدته بقرية الحقيبة بني حماد؛ وأمس عند العصر زار والده وتحرك كعادته لإنجاز واجباته ومهامه اليومية كمراسل خاص للقائد الحمادي وكان بمعيته عفان الحمادي ابن قريته وأحد المرافقين للقائد وبينما هما بسوق العين معا يقبض على صدره ويسلم روحه للرفيق الأعلى.
جاءنا بل وقع الخبر علينا كالصاعقة... مش معقول؟
وخاصة القائد الحمادي... الذي لم يستطع أن يكتم أو يواري حزنه الأليم عني اليوم حين قال لي :
- أنا حزين جدا ياسروري على صهيب... رحيله أوجعني فوق ما تتخيل .... كان ساعدي الذي أستأمنه لإنجاز أغلب مراسلاتي وشؤون المخيم والمرافقين... كم سأفتقد إليه.
***
لقد عبر الموكب الجنائزي الكبير المهيب الذي شيعه لمثواه الأخير في مقبرة قرية الحقيبة عن حب الناس إليه حبا جما موكبا كان في مقدمته العميد الركن عدنان الحمادي قائد اللواء 35 مدرع... ويكفي ألوان الأحزان التي تشكلت مرتسمة على سحنات وجوه الناس خاصة زملائه المرافقين الذين مازالوا غير مصدقين برحيله المفاجئ.
***
أشياء لا يمكن نسيانها....
الاخلاص الكبير والنادر للقائد وزملاءه.
أقلنا جميعا نوما فهو أخر من يأوي إلى مخدعه.
كنا كثيرا ما نتذمر ان لم يعجبنا القات أو تأخر زمان وصوله، وهناك من قد يظن به ظنا غير طيبا فلا يبادلنا إلا بالصمت والتحمل والابتسامات.... وهو تصرف ينم عن أي معدن أخلاقي رفيع كان تحلى به صهيب.
كان ليليا بعد ان ينجز مشاويره الخارجية لا ينام قبل ان يعتكف على مراجعة الحسابات اليومية.
ولن أنسى كيف كانن ينفس عن نفسه عندما ينتابه قرفا ما أو تعبا ... بل هانذا عندما دخلت الخيمة التي ضمتنا طيلة ترافقنا معا أسمع دوي صوته يجلجل في أذني بتلك الجملة الشهيرة التي كان غالبا ما ينفس بها عن كربه أو همومه.
جملة تعبر تعبيرا مكثفا عن وعيه الثوري والوطني.
( كله عمل الحوثي الملعون ابن الملعون).
أي كل الذي أوصل البلاد والعباد إلى ما هي عليه من مأسي وكوارث إنما هي من عمل الحوثي.
وأحياناً يغير الجملة فيقول...
( الله يلعن أبوك يا حوثي يا ملعون يا ابن الملعون ).
رنين صوته ما يزال يشنف سمعي ... ما أزال غير مصدق أنني لن أراه وهو يدخل ويخرج للمخيم ومعسكر العين، وبين المرافقين عند قيادة الأطقم.
اه ... كم هو موجع رحيلك يا صاحبي.
ولكنه القدر الذي لا نملك إلا نذعن له فلله الأمر من قبل ومن بعد وهو خير من يختار لنا قادم حياتنا.
اخيرا.... ماذا عساني أن أكتب عنك أيها الحبيب الذي سأضل افتقده كثيرا واتذكره مديدا فالكلمات لن تفيك حتى أقل القليل مما تستحق؟!.
ماذا عسى قلمي ان يكتب عنك يا رفيق النضال والمسار والغاية.
فنم أيها الراحل مع تنفسات فجر وطن قادم سيأت لا مفر من ذلك إلى جوار الشهداء الذين رحل أكثرهم قبل الأوان.
نم يا صديق الضوء قرير العين برفقة الرفيق الأعلى الذي نبتهل إليه أن يتغشاك بكرم رحمته وواسع جنانه وفردوسه.
سلام على روحك يوم ولدت، ويوم رحلت ، ويوم تبعث حيا.
إضافة تعليق