حين اعلن الرئيس الامريكي سيء الصيت "بوش الابن" الحرب على افغانستان عقب احداث الحادي عشر من سبتمبر، صاغ المثقفون الفرنسيون بيانا ادانوا فيه الدعوة الامريكية الى الحرب ، واعتبروا ان الذهاب الى افغانستان لن يكون من اجل العدالة وانما للانتقام . وقد انحاز لهم فلاسفة ك (بودريار، دريدا) وصحافيين (جان داليالي، فوليامي) وكتّاب (امبرتو ايكو وجون لوكارتيه) وبعد اسبوع واحد خرج المثقفون والاكاديميون الامريكيون ببيان وقعه 141 مثقفا واكاديميا امريكيا ذكروا فيه ان الولايات المتحدة تقود العالم الى النصر على الشر.
تطور السجال بين المثقفين الفرنسيين والامريكيين قبل الحرب وابانها وظل ذلك السجال محتدما لفترة لا بأس بها حتى ظهرت نتائج تلك الحرب الكارثية الى السطح.
كان للمقالة المزلزة للفيلسوف الفرنسي الشهير جان بودريار التي نشرت في صحيفة "لوموند الفرنسية" بعنوان "الفعل الارهابي وما يترتب عليه من ردود" دور الحجر الذي نزل الى القاع ليحرك معه المياة الراكدة ويغدو ذلك المخفي او المحجوب مكشوفا وواضحا للعيان فيصعب حيئذن انكاره.
لقد استطاعت تلك التحليلات الثاقبة والجريئة ان تجلب اليها العقل الغربي بمدارسها الفلسفية والنفسية المختلفة ونشأ سجال فكري محتدم وانقسم الفكر الفرنسي والغربي على نفسه والعالم بين مؤيد لتلك الرؤى والتحليلات والاستنتاجات وبين معارضا لها ومتهما في ذات الوقت الفيلسوف الشهير بالوقوف الى جانب الارهابيين دون ان يشعر.
ولعل ابرز الردود عاى ما كتبه الفيلسوف كانت من _جاك جوليار بعنوان "بؤس النزعة المعادية لامريكا" والان مينك "ذهنية الارهاب" وجيرار هوبير" رفض مديح الارهاب"_ الامر الذي جعل منه يكتب مقالا اخر بعنوان"جحيم السلطان" ناقش من خلاله موضوعة العنف والعولمة والارهاب والغرب والاسلام، ومدافعا عن ما كتبه سابقا، مضيفا العديد من الادلة والاستنتاجات التي توصل لها .
مقتظب من المقالة التي كتبها الفيلسوف الشهير ابان انهيار البرجين:
" لقد اهتز رهان التاريخ والقوة، لا بل اهتزت ايضا شروط التحليل".
"ينبغي التريث، لان الاحداث اذا ركدت وجب استشراف ما يليها والسعي باسرع منها ، من دون ان يؤدي ذلك بنا الى الغرق في ركام الخطب وسحابة الحرب ، محتفظين، نصب اعيننا ، بالسرعة الخاطفة للصور التي لا تنسى.
كل الخطب والتعليقات تتكشف عن قدر هائل من تصريف الانفعال حيال الحدث نفسه وحيال الفتنة التي يولدها .فالشجب الاخلاقي والاتحاد المقدس ضد الارهاب هما بحجم التهلل الاستثنائي لمشهد تدمير هذه القوة الفائقة العالمية، لا بل ، رؤيتها على نحو ما ،وهي تدمر نفسها بنفسها، كانها ترتكب انتحارا مشهودا.
ذلك انها، نظرا لقوتها التي لا تحتمل، هي التي اججت كل هذا العنف المبثوث في ارجاء العالم كله، وهي، تاليا، التي اثارت (دون ان تعلم ) هذه المخيلة الارهابية التي تسكننا جميعا.
ان نكون حلمنا جميعا بهذا الحدث ، ان يكون العالم باسره قد حلم به، لان احدا لا يسعه الا يحلم بدمار اي قوة بلغت من الهيمنة ما بلغته، هو امر لا يتقبله الوعي الاخلاقي الغربي، لكنه حقيقة، وهو حقيقة بحجم العنف المؤثر (العاطفي ) لكل الخطب التي تسعى لمحوه.
الى حد ما ، هم الذين ارتكبوا الفعلة، لكننا نحن الذين اردناها ، واذا لم ندرك ذلك يفقد الحدث كل بعده الرمزي ، فيبدو اذ ذاك ، حادثة محضة، وفعلا مجانيا محضا، ثمرة تهيؤات اجرامية لبضعة متعصبين ، يكفي القضاء عليهم وازالتهم من الوجود، والحال اننا نعلم جيدا ، ان الامر ليس كذلك .
ومن هنا ذلك الهذيان المضاد للخوف سعيا وراء تعزيز الشر : لان الشر موجود اينما كان، كموضوع غامض لرغبتنا . لولا هذا التواطؤ الدفين لما كان للحدث الوقع الذي كان له ، وفي استراتيجيتهم الرمزية يدرك الارهابيون ، بلا ريب، انهم يستيطعون الاتكال على هذا التواطؤ المضمر.
فلغرب، وقد تصرف كما لو انه في موقع الله (ذي القدرة الالهية الكلية والشرعية والاخلاقية المطلقة) يغدو انتحاريا ويعلن الحرب على نفسه.
عندما يكون الموقف محتكرا، على هذا النحو، من قبل القوة العالمية، وعندما نكون حيال هذا التركيز المذهل لكل وظائف الالية التكنوقراطية والفكر الاحادي، فاي سبب اخر يمكن سلوكه غير التحويل الارهابي للموقف؟ ان السستام نفسه هو الذي ولد الشروط الموضوعيه لهذا الرد العنيف المباغت. فباستئثاره بكل الاوراق، يرغم الاخر على تغيير قواعد اللعبة. والقواعد الجديدة ضارية ، لان الرهان ضارٍ، فعلى سستام تفرض قوته المفرطة بالذات تحديدا غير قابل للحل ، يرد الارهابيون بعمل نهائي يكون عوضه، هو ايضا مستحيلا . ان الارهاب هو الفعل الذي ينشئ خصوصية لا راد لها في لب سيستام من التبادل المعمم. كل الخصوصيات (الاجناس، الافراد، الثقافات) التي بذلت بموتها عوض قيام دورة تبادل عملي تحكمها قوة واحدة، تثأر اليوم لنفسها عبر التحويل الارهابي للموقف.
رعب مقابل رعب، ولم يعد هناك ، وراء كل هذا ، اي بعد ايدولوجي ، لقد اصبحنا بعيدين جدا عن كل ايدولوجية وسياسة.
ذلك ان الطاقة التي تغذي الرعب لا تعبر عنها ايدولوجية ولا اي قضية حتى ولو كانت اسلامية. اذ لم يعد الامر منوطا حتى بتحويل العالم ، بل يهدف (كما الحركات الهرطوقية في زمانها) الى اشاعة الراديكالية عبر التضحية في حين السيستام يهدف الى تحقيق ذلك عبر القوة".
وعلى الرغم من مرور تلك المدة الطويلة على انهيار البرجين واحتلال افغانستان الا انني ما زلت اجد تلك الكتابات والسجالات مادة ثرية لفهم ظاهرة الارهارب .