كان الزمان كأنه فجر الوجود ، وكان السقاف يكبرنا سنا ،كان حينها قد تجاوز الثلاثين بعام أو عامين .. كان شاباً أنيقاً وسيماً كثير التجارب .. لم يكن طالباً في الجامعة لكنه كان معشوق الطالبات، وكا نت شجرة السقاف علامة من اهم علامات الجامعة ، تحتها نتحلق حوله أنا وعبد الباري معتوق ، ومختار الضبيري وأحمد الزراعي وصادق الهبوب ومحمد القعود وعبد المهيمن الافلح ومدين السقاف وأنور القحم وجمال الفروي ونبيل السروري ومأمون الربيعي وآخرين آخرين...
حين عرفته لم يكن يكاد يفترق عن عبد الباري معتوق طرفة عين .. وقتها كان السقاف يتنقل بين قلوب الجميلات كنحلة بارعة فيما ينتج أجمل الرحيق ممثلاً بقصائده التي كان شكلها الجديد جديراً بخلق مشهد غنائي مختلف تماماً ، وما كان أحوجنا حينها ليكون له توأم فني يتجاوب مع روعة إبداعه ويلتقط لحظته الفارقة...
كان حساد السقاف كثيرين جداً فالمذيغة الفارعة الطول ذات العينين الزرقاوين والابتسامة التي تشف عن أسنان كالثلج تغرق في غرامه غرقا ، تنافسها أخرى من ذوات النفوذ والعظمة ، وكان السقاف يدير علاقته بهما إلى جانب علاقته مع كثيرات أخريات بحرفية رائعة .. ما كان يسبب له عداوات كثيرة .. تعكس نفسها حرباً على تجربته الشعرية الفريدة التي تتفجر كل يوم بجديد ..كانت شجرة السقاف صفصافة فارعة الطول تقع في ملتقى ثلاثة ممرات بساحة كلية الآداب التي كانت آنذاك جزءً من الجنة تحيط بها مباني الكلية من الغرب والشمال والشرق ويفصلها جنوباً ممر واسع يقع دون مكتبتها العتيدة وإلى الجنوب الشرقي القسم الفرنسي المؤسس حديثاُ تقع بينه وبين شؤون الطلاب بوفية الكلية ، لذلك فمن حيث أتيت تجد السقاف في انتظارك وقد أشعل سيجارته المورالبنية الرفيعة التي عرف بها ولم يكن احد يشاركه في من نعرفهم تدخينها وكان يذهب لجلبها من المطار إذ هي لا تباع إلا هناك
..
كان يقف في خيلاء المبدع تحت شجرته المنحوت اسمه على جذعها بيدي عبد الباري معتوق ، يقف وسط محبية وتحت سهام كيوبيد التي يتلقفها قلبه من كل اتجاه فيما عيناه على الدور الثاني حيث تقف المذيعة الحسناء فارعة الطول بابتسامتها الناصعة البياض كالثلج.
كنا مأخوذين بالسقاف الذي نشأت بينه وبين صديقي وزميلي في السكن عبد المهيمن الأفلح كيمياء عجيبة ربما لقدرة الأفلح على كسر الحواجز بسهولة وعن طريق السقاف تعرفنا على الشاعر والناقد كمال سالم البطاطي وفي مقيل البطاطي بدأت رحلة تعرفي الحقيقية على المشهد التسعيني المتبازغ آنذاك.. وأخذنا مراراً إلى بيته الأنيق القريب من كلية الآداب حيث كان يملأ مقيلنا بالشعر الذي لا يقطعه إلا شغفه بابنته الوحيدة " سكون " ذات السنوات الأربع تقريباً. كان يسخر من حياته الصاخبة وهو يداعب ابنته ويقول أسميتها " سكون " فهو الشيء الوحيد الذي افتقده في حياتي .. وبين هذا وذاك كان السقاف يحكي لنا تنقلاته الكثيرة بين القلوب العاشقة في الغربة من جدة إلى الكويت إلى صنعاء .
كان السقاف حينها منغمساً في التواصل مع كبار الملحنين والفنانين الذين بدأت تجربته تلفتهم ولم يكنوا فنانين صغاراً بل كانوا من وزن أحمد فتحي وأحمد بن أحمد قاسم..
وحين عرف أني صرت ملازماً للبردوني أتردد إليه كثيراً قرر أن يذهب معي لزيارته .. وذهبنا ومعنا عبد المهيمن الأفلح وعبد الباري معتوق وكان استقبال البردوني للسقاف حفياً ..كنت قد حدثته عنه لكن القصائد التي ألقاها السقاف بين يديه كانت أكثر قدرة على توضيح صورة السقاف فقد لفتت حداثة الشاعر الشاب واختلاف لغته الغنائية ومغايرتها لموروث الاغنية اليمنية نظر البردوني الذي راح يشيد بالشاعر وشاعريته واختلافه في كلام كثير نشرت بعضه في مقال كتبته آنذاك بعنوان " شاعر الأغنية الأول " وكان العنوان مستوحى من كلمة قالها البردوني وفحواها أنه لو أتيح للسقاف توأم فني عبقري التلحين والصوت فسيكون شاعر االأغنية الأول .. لأن طبيعة الكتابة التي يجترحها هي من نوع الكتابة البيضاء التي تتخطى حواجز اللهجة وربما تستطيع الخروج بالأغنية اليمنية إلى فضاء أوسع .
حتى عبد الباري معتوق الشاعر الأنيق الذي اعطى صديقه السقاف كل وجدانه آثر - حين سأله البردوني عن نفسه وشعره – إلا أن يسمع البردوني من شعر السقاف وراح بنبرة صوته الأخاذة يترنم ب (لعوبة ) أحد نصوص السقاف الأخاذة ..
خرجنا من بيت البردوني في ذلك الصباح النوفمبري والسقاف يكاد يطير جذلا.. لكن نشر موضوعي عن لقاء السقاف بالبردوني وما ذكرته من إعجاب البردوني به وما قاله عنه أثار عليه أحقاد شعراء وكتاب كان يغيظهم وهجه .. ويعشي أبصارهم تألقه .. فشنوا حملة شعواء ضده ودفعوا بأحد مريدي البردوني القدامى فافترى لهم نكتة على لسان البردوني تقلل من شأن السقاف زعم أنه قالها حين سأله السقاف عن رأيه في شعره ، ولم يحدث من ذلك شيىء فلا الرجل كان معنا ولاالسقاف سأل ولا البردوني أجاب ، لكن ذلك الرجل كان مشهوراً بسلاطة اللسان والقدرة على السخرية مع الجرأة على نسبة الكلام دائما إلى االبردوني .. وكان أكثر الناس فرحاً بتلك النكتة المفتراة منافسوا السقاف على قلوب الفاتنات ، وتأذى السقاف كثيراً وخرج عن طوره مراراً ولم يكن ذلك يزيدهم إلا غيّا .
وكانت كلية الآداب آنذاك تضج بالنشاط الثقافي والفعاليات التي يتسابق عليها الشباب ممن كانو يشكلون طلائع الجيل التسعيني فلم يكن قد مضى إلا عام واحد على صدور ديوان مشترك عنوانه " وهج الفجر " يحتفي بتجليات تلك الطليعة وعلى رأسهم السقاف ، ولأن تطور تجربة السقاف كانت تبدو متسارعة توازيا مع حالة التوهج العاطفي والحضور اللافت الذي كان يحققه فقد بدأت تظهر حساسيات من بعض الشعراء تجاه تميزه وبدأت فعالياتهم في قاعة جمال أشهر قاعات جامعة صنعاء وفي غيرها من قاعات الجامعة أو الأندية الرياضية تتحاشاه ، وتنرفز السقاف زمناً ثم اتجه إلى تنظيم فعالية خاصة به أراد لها أن تكون في قاعة جمال عبد الناصر على أن يرعى الفعالية الدكتور عبد العزيز المقالح .. لكن الشباب - حسب ما أخبرني السقاف يومها - استماتوا من أجل تغيير مكان الفعالية وألقوا بثقلهم على المقالح كي يتخلى عن رعايتها وفي زحمة المنافسة والاحراجات تم نقل الفعالية إلى قاعة الزبيري وكلف المقالح الشاعر والاديب والمثقف البارز نزار غانم بإدارة الفعالية نيابة عنه .. وتحولت الفعالية الى يوم مشهود فقد اكتظت القاعة بجمهور السقاف وتفنن الدكتور نزار غانم في تقديمة وأغرق السقاف القاعة بعسل وورد كثير ..
نشرت وقتها موضوعاً آخر عنه كان عنوانه " بين نكران الوطن وجحود الحبيبة " وتوطدت علاقتي أكثر فأكثر به حتى أنه اهتبل فرصة اجازة نصف العام سنة 1993م . ليفاجأني بزيارة إلى الجيلانية حيث قضى معنا ثلاثة أيام متنقلا بيني وبين شاعر امزخم أحمد سليمان ..
ثم دار الوقت دورته واستعدت رحاه -مع الاسف الشديد -لسحق الشاعر الجميل .. فقد دخل السقاف في خلاف صعب مع مجموعة تجارية شهيرة كان يعمل لديها وتطور الخلاف ليصبح مسألة حياة أوموت وكان صيف عام 1994م لحظة فاصلة فقد ألقت قوى التخلف والظلام كلاكلها العابسة على الجامعة تخنق الجمل وتحجب الابتسامات الناعمة وتنزع الحلاوة من كل شيىء وبمقدار ماكان ذلك الوضع يعكس كآبته علينا والسقاف معنا كانت أضرار اصطدامه بأرباب عمله تعكس أضرارها عليه شاعراً وعاشقاً وإنساناً ورب أسرة ..
تدهورت أحواله وانفض سامره الجميل وغاض نبع الفاتنات من حوله .. ولم ينته زمن الجامعة إلا وقد تباعدت بنا الطرق أو كادت ..وبقي السقاف يطل علينا كل ثلاث سنوات أو أربع حاملا ملفات قضيته المزمنة .. وفي طريق المعاناة والظلم والظلام وانعدام العدل والانصاف ماتت الزوجة وشاب الرأس وطالت اللحية ببياضها المؤلم .. ولم يبق من الشاعر الا شبح يقتات بالحسرات والمرارة ..
استيقظ السقاف في نفسي قبل سنوات فذهبت للبحث عنه وحضر معنا مقيل العابد أكثر من مرة حرصت خلال تلك الاستيقاظة المفاجأة نحوه أن آخذ قدر ما استطيع من قصائده كي أكتب عنها وكي أجهزها للصدور إن لاحت الفرصة لذلك لكن هيجانات الشوارع عام 2011م صرفتني عن الاهتمام به فلم أجهز ديوانه للنشر ولا حتى كتبت عنه ..
آخر مرة شاهدت فيها السقاف كانت عام2013 م قرب وزارة الثقافة في ميدان التحرير، يومها لم يسألني عن مصير قصائده ولا ماذا فعلت بشأنها ، كان قد شاخ إلى درجة محزنة ، وكان لا يزال يحمل عبء قضيته التي أكلت أجمل سنوات عمره وقضت على طموحه الابداعي وغمرت بعذاباتها وأوجاعها توهجات شاعر كان ينتظره مستقبل فني غير عادي ..
وها أنذا اليوم أستعيد السقاف بعد أن شجاني لزمنه منام رأيته فيه .. هاأنذا أكتب عنه وقد ذكرني صديقنا المشترك عبد االباري معتوق بنص يقرر فيه السقاف حاله مع الحبيبة ومع الدنيا كلها
على فكره
انا وانتي تغيرنا
تباعدنا بلامشوار
حاولنا كذا مره
نخفف من لهيب النار
تعللنا بسوء الحظ
تعذرنا بكل اعذار
على فكره
تمادينا
وقلنا للزمن غدار