في زيارة خاطفة من يوم ٧-٩ ديسمبر ٢٠١٨ إلى "بنوم بنه" عاصمة كمبوديا وذلك بغرض تقديم استشارة في مجال التعليم العالي حيث كانت أول زيارة لي لمملكة كمبوديا، تعرفت من خلالها على هذه البلاد الجميلة والخضراء عن قرب من خلال المشاهدة والمقابلات لعدد من الكمبوديين والمهاجرين إلى هذه البلاد.
تبلغ مساحة كمبوديا حوالي ١٨٠ ألف كيلو متر مربع ويقطنها حوالي ١٦ مليون مواطن . الطابع الثقافي العام للسكان هو طابع الثقافة البوذية فالغالبية العظمى للسكان هم من البوذيين( أكثر من ٩٠%). وإن كان يوجد حوالي ٦% من المسلمين وأعداد قليلة من المسيحيين .ويعمل أغلب السكان في الزراعة لاسيما في المناطق الريفية لأنهم يمثلون ٨٠% من السكان وإن كانت كمبوديا متسارعة في نموها اقتصادياً . أغلب الصناعات ذات المردود الاقتصادي استثماراتها أجنبية لاسيما من الصين . تشتهر كمبوديا بصناعة الملابس والنسيج ومواد البناء والسياحة وزراعة الأرز والمطاط وتربية الأبقار وبعض المنتجات مثل الفلفل الأسود وغيرها.
متوسط دخل الفرد في العام تقريباً حوالي ١٢٠٠ دولار في السنة وإن كان المشاهد يرى أن مستوى الفقر ظاهر للعيان في البلاد. فالفجوة بين الفقراء والأغنياء كبيرة وفي إزدياد.
تتسم البلاد بالديمقراطية والملكية الدستورية وحرية ممارسة الأديان.
فلقد مر على كمبوديا فترة صراع دموي قامت حكومة الخمير الحمر ذات التوجه الشيوعي أثناء المد الشيوعي لاسيما في الفترة من ١٩٧٥ إلى ١٩٧٩م بقتل أكثر من مليونين مواطن منهم نصف مليون مسلم. ولقد كان عدد المسلمين في حدود ٧٠٠ ألف في السبعينيات من القرن الماضي أي فترة الحكم الشيوعي والمجازر الجماعية ولم يبق منهم حينئذ إلا حوالي ٢٠٠ ألف مواطن مسلم.
وحالياً يبلغ تعدادهم ما يقارب مليون نسمه موزعين على جميع المحافظات وإن كان أغلبهم في ثلاث محافظات والرابعة العاصمة التي يقطنها حوالي ٥٠ ألف نسمة من المسلمين وفي زيارتنا وجدنا تجمعات كبيرة نسبياً في العاصمة بمساجدهم ومدارسهم وأنشطتهم التجارية والحياتية .
جل المسلمين انتقلوا وفروا بدينهم عندما تم إلغاء مملكة التشام في وسط فيتنام في عام ١٤٧٠م . حيث وصل الإسلام إلى تلك الدولة في القرن الحادي عشر الميلادي.
وقد استقبلهم ملك كمبوديا بعد اضطهادهم من فيتنام، وعليه فإن الغالبية العظمى من مسلمي كمبوديا من ذوي الأصول التشامية والذين لهم لغتهم الخاصة والتي كانوا يكتبونها بالحروف الجاوية وهي في طريقها للاندثار حيث بدأ الأغلب يتخلون عن كتابتها وبقيت كلغة تواصل مع وجود أعداد بسيطة من أصول جاوية.
يتزايد اليوم المسلمين بإسلام عدد من البوذيين كل عام ولاشك سيظهر أثرهم مع تزايد أعدادهم حيث يلاحظ إسلام العديد منهم لاسيما من الريفيين الذين ينتمون إلى البوذية. فعدد من القرى والأفراد يتوالى تقبلهم للدين الإسلامي وأغلب ذلك نتيجة لنشاط دعوي من قبل بعض الدعاة لاسيما الذين قدموا من خارج البلاد.
وبعد استقرار الحكم في كمبوديا وضمان حرية الأديان بدأت تنشط العديد من المنظمات غير الحكومية في تأسيس المدارس والسكنات الطلابية الجماعية ودور القرآن والمساجد ورعاية الأيتام ومساعدة الأسر الفقيرة وغيرها من الأنشطة الخيرية بدعم محلي أو من منظمات وأفراد من أهل الخير من دول جنوب شرق آسيا أو دول الخليج العربي بالذات. وهذا ساعد على توعية المسلمين بفهم دينهم و ولد حماس التحاق الأولاد بالتعليم والانتقال تدريجياً من العمل الزراعي والصيدي فحسب إلى العمل في المجالات الاستثمارية والتجارية الأخرى.
وبالرغم من إيلاء الحكومة اهتماماً بالغاً بتطوير وتنمية البلاد إلا أنه لازال هناك حاجة ماسة للتوسع في التعليم بجميع فروعه، وتقليل التسرب وتحسين الجودة وإتاحة الفرص المتكافئة في الخدمات لاسيما بين الريف والحضر. فأغلب الخدمات لازالت متركزة في المدن لاسيما في العاصمة والتي يقطنها أكثر من مليون ونصف من السكان. فأكثر من ٥٠% من الطلبة في الجامعات والتي يبلغ عددها حوالي ١٢٠ جامعة ٧٠ منها خاصة ملتحقون من سكان العاصمة . نسب التسرب عالية فبالرغم أن أغلب الطلاب إن لم يكن جميعهم يلتحقون بالمدارس الابتدائية إلا أن الأعداد تتسرب ولا يلتحق بالتعليم العالي الحكومي والخاص إلا ١٠% ممن هم في الفئة العمرية التي ينبغي أن تلتحق بالتعليم العالي وهذه خسارة فادحة للموارد البشرية الكمبودية. وقد يكون الفقر وتركز الخدمات التعليمية لاسيما الخاصة في العاصمة لا يساعد على التحاق الطلبة في التعليم. فالرسوم بالنسبة لأغلب المواطنين ليست في متناول اليد فرسوم المدارس الخاصة تتراوح من ٥٠٠ الى ٥٠٠٠ دولار أمريكي وفي الجامعات تتراوح من ٧٠٠ إلى ألفين دولار أو أكثر بحسب التخصصات أو المستوى الدراسي، فيما إذا كان جامعي أم دراسات عليا. ويقبل المواطنين على التعليم الخاص لجودته وأيضاً لاستخدام اللغة الانجليزية كلغة تدريس فقدمت المدارس و الجامعات الخاصة من خارج البلاد كالامريكية والبريطانية والتركية وغيرها وحتى يتمكن الملتحقين من الحصول على وظائف ذات مردود مادي عالي مقارنة بمتخرجي الجامعات الحكومية التي تدرس باللغة الخميرية وهي اللغة الوطنية. فالتأثر بالثقافات واللغات الأجنبية لاسيما الغربية واللغة الانجليزية أصبح واضحاً بالرغم أن فرنسا هي من استعمرتهم لكن اللغة الانجليزية طغت على اللغة الفرنسية . مع أن الحكومة الحالية اتجهت لتوثيق صلاتها بالصين أكثر من الدول الغربية لاسيما أمريكا.
البنية التحتية ضعيفة والخدمات الصحية والاجتماعية والتعليمية لازالت متدنية وفي حاجة إلى تطوير.
ويمكن القول أن المسلمون بدأوا يحققون مكاسب أفضل في ظل الحرية والديمقراطية فمنهم وزيرين ووكلاء وزارات وأعضاء مجلس نواب و مجلس شيوخ لاسيما وهم يدعمون الحزب الحاكم الحالي. وبدأ يزداد اهتمام المسلمين بالتعليم والتجارة لاسيما في السنوات القليلة الماضية ولكنهم في حاجة إلى اهتمام أكثر وتنسيق أكبر من قبل المنظمات العاملة في المجتمع والمجالس والشخصيات التي تمثلهم فلا زال هناك قصور في التعاون والتنسيق بين مؤسسات وقيادات المسلمين.
وتواجه مملكة كمبوديا عدد من التحديات من ذلك:
١. ازدياد الفجوة بين الأغنياء والفقراء فالمال والثروة بدأت يزداد تركزها في نسبة قليلة من السكان وأغلب السكان يزداد فقرهم سواء في الأرياف _ وهم الأغلب _ أو في المدن.
٢. تزايد تدفق الاستثمار الخارجي وسيطرته على الاقتصاد الوطني لاسيما الصيني فقد بدأ الكمبوديون يتحدثون عن وصول أكثر من مليون صيني إلى سواحل إحدى المناطق الكمبودية واختفاء الكمبوديين منها حتى سيطروا على الاسثمارات الكبيرة والصغيرة في المنطقة وهذا يمثل تهديد حقيقي إذا لم توجد أنظمة وسياسات تضمن سيطرة البلاد على اقتصادها.
٣. شيوع الفساد المالي والإداري في الدولة مما ينذر بعواقب كارثية على التنمية والازدهار .
٤. محاولة تدخل بعض الدول في شؤون البلاد لاسيما الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا بالإضافة إلى الصين وفيتنام.
٥. تدني الاستفادة من الخامات المتوفرة في عملية التصنيع بغرض تصدير ما يتم تصنيعه بدلاً من تصدير المواد الخام مثل المطاط مثلا وغيره. فتأخر وعدم تسارع التصنيع سيؤثر لا محالة في عملية الاقتصاد لاسيما مثلا هناك مبشرات في اكتشاف البترول والغاز وقد يكون مصير ذلك نفس مصير المطاط. فتأسيس الصناعات المختلفة والمرتبطة بالخامات أمر في غاية الأهمية . وهذا يقود إلى الاهتمام بتأهيل الكوادر البشرية والتعليم ومحاربة الفساد ووضع سياسات واضحة للاستثمار الأجنبي .
٦. يمكن القول أيضا أن مستوى تطبيق الحوكمة في الدولة ضعيف سواء في التوجيه والرقابة وتعيين الأكفأ والأنزه وتوفر العدالة والشفافية والمسؤولية والمساءلة كلها قضايا تعتبر من الأعمدة الرئيسية لتنمية البلاد وازدهارها.
٧. تدني مستوى جودة التعليم فأغلب معلمي المدارس لايحملون مؤهلات جامعية والمتخرج يستلم راتب مقداره ٢٥٠ دولار شهرياً وهو قد لايكفي لايجار شقة نظيفة بالعاصمة. ولايلتحق بالمهنة إلا من انقطعت بهم السبل ولا يحمل مؤهل جيد.
٨. القوة الشرائية للعملة المحلية ضعيفة فالدولار الامريكي الواحد يعادل أربعة آلاف ريال فالريال هو العملة المحلية. ولقد لاحظت أثناء زيارتي أن أغلب من كنت معهم يستخدمون العملة الامريكية فهي الشائعة في البيع والشراء لأنه لايمكن حمل الملايين في البيع والشراء من العملة المحلية. وحتى كثير من الموظفين يستلمون الرواتب بالدولار الأمريكي.
وعليه فإن الحوكمة والمؤسسية والكفاءة والفاعلية والاستقلالية والوطنية والتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وتفعيل النظام والقانون وتحسين جودة التعليم تمثل بعض الركائز الأساسية نحو كمبوديا جديدة مزدهرة.