جبين خلفـــــــــــــــي لرأس ...هاني الصلوي

آلة تسجيل قديمة تصدح ببعض الأغاني الرومانسية من الزمن الطري اللزج، غرفة هادئة في الطابع الرابع من بيت في أقصى القرية  هي دار حسين المثمن. الزمن ليلة السادس عشر من مايو ، الألفية الثالثة ـــ بلاسنة ــ . الواحـدة صباحـًا : مهندس الاتصالات حـازم حسين عار ٍ بجوار زوجته وشريكته وهي كذلك . ضوء فانوس خافت في الجهة القبلية من الغرفة . يتأكد الزوجان من أن نزارًا ابنهما الوحيد ذا الخمسة أعوام غاط في النوم مع الملائكـة . مداعبات خفيفة فأكثر ، فأكثر ، يعتلي حـازم زوجته سعـاد ، يجدفان في بعضهما  برغبة عارمة . ظهـرُ السيد حازم للصبي النائم ، رجلا المرأة على كتفي الرجـل ، تأوهات تبدء خافتة ثم تكبر معظمها صادرة من سعــاد  .  تهمس في كلتي أذنيه : أريد رفيقة لنزار . يستيقظ الصبي على معـركة ــ لا يتوقف الباشمهندس المغدور كلما التقاني عن تأثيث المشهد وتفصيل الملابسات والتحسر ـــ . يسؤه ما يقع على أمه من حيف من قبل المتغطرس أبيه ذي الأكتاف ، فيتقدم باتجاههما على ضوء السراج الخـافت ممكسًا بكأس زجاجي نسيته أمه بجانبه قبل نومه . يقترب بكأسه الزجاجي من ظهر أبيه ويعـود القهقرى ، ثم يقترب : مكر مفر، مقبل ، مدبر كأن ليس في الغرفة سواه ، إنه ميدانه ويبدو ألا إشارة مقاومة ستضع حـدًا لهدفه ِ النبيل ، رقبة أبيه ؟  لا لا أسفل عموده الفقري ، لا  لا  بل مؤخرة رأسه . قفاه المفتري . يركز عدسة الكلاشنكوف ، دائرة كفه ، يقذف الكأس بكل قوته على قفا أبيه المهندس وهو يصـرخ ملء المكان منتصرًا ، يقع الأب بلا أية دماء من على أمه ، بينما تنسل آلته الذكورية كأن لم تكن عـاملة ، أو كأن لم تكن من ثوان ٍ قليلة على أشدها . رعب غير مسبوق على وجه الأم العارية وبكـاء وصراخ . أصبت أبوك يانزار . يجمع الفتى جسده في الزاوية دون أن ينبس بابنة شفة . أيعقـل أن تصرخ أمي بي بعـد أن أنقذتها من بين براثن الوحش ــ وحش بالقانون كما تقول السينما ــ . تهرع الأم فزعة إلى نافذة الغرفة وتصب كل الماء البارد على رأس زوجهـا وهي تبكي . وتستر نفسها في الأثنـاء ، وجسد زوجها . يستيقظ الزوج . ويعود لغيبوبته ومع آخـر قطرات ماء الكوز على جثته يستيقظ ، ومازال هناك دوار .. يتجه صوب فتاه المدلل ، ودون أدنى شفقة يمسكه من منتصفه ، ويرميه في الهواء حتى تشج خرسانة السقف رأسه الطفولي ، فيقع على الأرض مغشيـًا عليه لنصف دقيقة ثم يستيقظ ويطلق صراخـًا عاليًا ، يشق الدار كلها ، ويرفض تهدئة أمه له ، بل يزداد عويله أكثر ويزيد من رفع صوته كلما حــاولت أمه تهدئته أما الأب فتعاوده الغيبوبة ، ويهمد مجددًا بلا حراك .. يصعد كــل من في الدار : الجدة والجد ، أعمام الفتى وزوجاتهم الذين عــادوا للقرية لأداء العيد وسط الأهــل ، حيث وافق العيد الكبير هذا التاريخ الميلادي .. الجميع يصرخون مطالبين سعــاد أن تفتح الباب بينما صراخ نزار يتزايد بوتيرة أعلى .. انتظــروا ــ تطلب سعاد مهلة لفتح الباب بينما تفعل شيئا ضروريـًا . إنه ..إنها تلبس زوجها الممدد بين يديها جثة هامدة ثيابه ... وراء الباب يتزايد غضب الجدة والجد وهما يهددان بكسره إن لم تفتحه سعاد أو زوجها .. يطلب أولادها منها التريث .. تضع بعض السبورت على بعض القطن . وتحشو أنف الباشمهندس حتى يفيق من ميتته . يستيقظ بكامل هدومه . ورعشات وألم فظيع ينتابه . تفتح الزوجة الباب و...وتدخل الجدة  هــي تصرخ بالزوجين : قتلتموه . لا أريدكما .. هاتوا ولدي .. لايكف الفتى عن البكاء والنشيج ، نشيج وتنهد جريح ضرب بسيف في معركة غير متكافئة . تأخذ الأم الكبرى نزار لحضنها وتدعوا الجميع للانصراف ... لا تتكلما : تعنف المسكين حازم الجاني والمجني عليه في آن .. لا أريد أن أعرف أي قصة يا بنت عبدالحبيب .. بكرة حسابي معك يا ابن بطني .. تأخذ الغلام وتهبط به ... يغلق باب الغرفة ثانية ويتجادل الزوجان فيما حدث . تؤنب الزوجة فارسها على ما كان منه من تعد ٍ على الطفل المسكين .. تبكي على حازم وعلى وجها هلع من أن  يكون دماغه قد ارتج أو اختلط كما قالت . ففقدت حياتها للأبــد . 
في الأسفل يستمر بكاء الطفــل في فراش جدته حتى يقول شائف المــؤذن : ربي الله . وينام .. لم ينم الزوجان حتى السابعة صباحًأ .. ثلاث أيــام مرت كأنها عمر بكامله على الباشمهندس حــازم وحليلته ، كل فترة وأخرى يعاوده الألم فيفر لغرفته ويأخذ مسكنــات للألم وحبوب تنويم وينام ساعة أو ساعتين ويعـود لاحتشادات العيد وبهرجه مرغمـًا ... آمـلا ألا يأخذ أيًا من أفراد أسرته الكبيرة خبرا بالواقعة .. رغم أن ذلك حدث بعد أسابيع بعـد أن انغمس في المدينة في برنامج علاجــي طويل الأمــد . بالطبع بعد أن زار معظم أطباء العاصمة من المختصين بأمراض المخ والأعصاب .. وبعد أن عــاد من رحلته العلاجية إلى الأردن . ارتجـاج بالمخ كما خمنت سعــاد وخمن ليلة الواقعة . لكنه قابل للعلاج كما أخبره المختصـون .. وهو ما طمأنه وشريكته .. يستمر الباشمهندس بتعاطي العلاجــات رغم أنها تقل كلما تقدم في الالتـزام بما يمليه الاستشاريون من نصــائح ..
أمــا الفتى نزار المنتصــر والمنكسـر فلم يعد مع أبويه لمنزلهما في المدينة بعد انتهاء العيد . التصق بجدته لا يغيب عن بصرها . كانت تلك الليلة هي الأخيرة التي يدخـل فيها غرفة أبويه . لم يعد يقترب من بابها بتاتــًا حين يعود حازم وسعـاد لقضاء العيد في القرية  .. هاهو الآن في الرابعة عشرة .. لا يعتقد أن هنـاك غرفة في الأعـلى ينام فيها أبواه الموتوران ... لا ينام حازم وسعـاد أبدًا .. وليس لاينامان معـًا حتى . إنهما مخلوقان في قمة الصحـو والوعي والاستيقاظ والريبة والأذية . ربما أصبح أخواه الاثنان أمجد وهاشم وأخته ريم اللذان ولدا بعـد ذلك الفصـل من المجهـول ، كائنات لاتنام أيضـًا ، ولا تتسرخي على فراش كحازم وسعـاد ... هكـذا : يناديهما حين يقصدانه وجدته والعائلة في المناسبات والأعياد . نعم لديه أبوان لاينامان كالبشر .... ولمـــاذا ؟ لماذا سينامان أصــــلًا .

 

 

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص