بقلم/ الغربي عمران
السطور الأولى من رواية "احلام المسيسيبي.. على ضفاف سبو". صادمة.. إذ يستعرض الكاتب مشهد وصفي لما شاهده العالم في يوم11 سبتمبر 2001 . تلك رواية للأديب المتجدد مصطفى لغتيري. صادرة عام 2018.. عن دار الرافعي.. القاهرة..
سبق أن قرأت للكاتب عدد من أعماله الروائية.. إلا أنه هذا العمل يختلف باستخدامه تقنية المسارات المتعددة للسرد.. مسارات لحكايات مختلفة.. وشخصيات.. وأزمنة مختلفة. وما يجمع ذلك الاختلاف وحدة الموضوع.. أو الفكرة التي تتمحور حول الدم المسفوح.. إذ يبدأ الكاتب في فصل روايته الأول بالمسار الأول: بسرد حدث الاعتداء الإرهابي على برج التجارة العالمي في نيويورك.. وما خلفه من قتلى وجرحى ومشردين.
وفي الفصل الذي يليه المسار الثاني: إذ يذهب الكاتب بنا إلى بداية الخليقة.. إلى أول جريمة قتل بين أبناء حواء وآدم.. لتستمر ساقية الدم.
وفي الفصل الثالث يسرد المسار الثالث: مجريات أحداث الحراب العالمية الثانية ودخول اميركا الحرب.. وملايين القتلى والجرحى وسيل الدم يلف العالم.. وتتوالا المسارات فصل بعد آخر حتى النهاية. الرواية تحكي سيرة الدم عبر العصور.. اذا هي رواية الدم.. وذلك العنوان المخادع "احلام المسيسيبي.. على ضفاف سبو". الذي يوحي بالأحلام.. ليس إلا إحدى الاعيب الكاتب في إيهام القارئ بفتات الآمال الوردية.. فالدم هو يحتل صفحات الرواية.. وما الأحلام جانيت وأحمد.. أو كلارك والغالية.. إلا هوامش مبعثرة في زوايا الفصول.
الكاتب عالج في روايته قضية وجودية.. وبأسلوب فلسفي عميق.. مستحضرا أسطورة بدء الخليقة.
وهنا أجد عقلي مستدعيا نظرية داروين.. تلك التي تتكئ على العلم .. لتزيح أساطير الخلق.. وما رددته مختلف كتب الأديان من الشرق الأقصى والهند إلى بلاد الرافدين ووادي النيل إلى اميركا اللاتينية.. وديانات الشرق الأوسط. متسائلا هل ورد على ذهن الكاتب مثل تلك المقارنات في الخلق؟!
الكاتب كما هو في لغته الثرية يوزع شخصياته لتروي سيرة الدم عبر التاريخ.. مصورا العالم تطوقه أجنحة "الحربوش". عشرون فصلا تتقاسمه عدة أصوات سردية.. مصاحبة المتلقي من زمن إلى آخر.. فمن العليم الذي ما أن يظهر حتى تزيحه الأصوات المشاركة.. كـ جانيت وكلارك والحربوش. إذ يتوالون على فصول الرواية.. ليحكي كل منهم أحداث زمنه. في تعاقب مرن ومدروس. وهنا أتخيل الكاتب وقد وضع تصوراته قبل البدء في صياغة حكاياته .. محددا الأطر الزمنية لكل مسار.. راسما أدوار كل شخصية.. أين تبدأ وأين تنتهي.
تحكي جانيت العصر الحديث.. في عشرة فصول غير متوالية.. ويتقاطع معها كلارك في ستة فصول متفرقة.. والحربوش في أربعة أخرى . ما يبعث على الإعجاب بقدرة الكاتب على ذلك المخطط.. وامساكه بخيوط الأحداث المتداخلة وشخصياتها.. في حبكة تحتوي عدة حبكات داخلية. تاركا لوعي المتلقي تخييل ما يمكن أن يساعده على ربط الأحداث ببعضها.. وبين شخصيات لا تلتقي.. إذ تعيش تلك الشخصيات في أزمنة متباعدة.. وبأحداث مختلفة.. وما يجمعها هو سيرة الدم المسفوك.
رواية مختلفة بتقنياتها.. وفلسفتها.. وفي تشكيل مشاهدها الزمكانية.. إذ أنها تتنوع بين الواقعي.. والخيالي.. إلى المتخيل الفنتازي.. لتلون الكرة الأرضية بخيوط الدم.. رغم اظهر بعض التجانس لمجتمع الرواية بين أعراق متعددة بتوجهاتها والوانها.. ولكن يظل الإنسان في مواجهة شرور نفسه.
ثلاثة مسارات سردية مختلفة يقدم من خلالها الكاتب الوجه القبيح للمتسلطين.. في لوحة فسيفسائية عملاقة تصور ما يدور في العالم.. مظهرا المجتمع الإنساني على حقيقته.. وقد تقنعت قوى الشر بأقنعة الحمائم.. ومسوح الرهبان كذبا.
ورغم سيل الدماء إلى أن رواية تظل انسانية في عمقها.. ففي القوت الذي تفضح زيف من يدعون بالسمو والقيم السامية.. وتكاشف نواياهم التسلطية والدموية عبر التاريخ.. فأنها تفسح فرجة ولو صغيرة للأمل بغد أكثر سلام. رغم ما يحاصر البشرية من جماعات دينية إرهابية.. إلا دعاة القومية والعنصرية.. موجهين جيوشهم والاتهم الحربية للتوسع واستغلال الشعوب المستضعفة.. ليتضح أن كل تلك الحروب بعيدة عن أي قيم نبيلة.. وأنهم يقتلون ويدمرون من أجل المزيد من السيطرة والموارد.. ونهب خيرات الشعوب المتخلفة. إلا أن فرجة الأمل تظل مشرعة.
وبالعودة لتعدد أصوات الرواة.. نجد جانيت تلك الفتاة العشرينية.. تعيش هول ما حدث بعد الاعتداء على برج التجارة العالمي قائلة: "الأسطورة تنتهي الأن بشكل مفاجئ.. وإذا ببلدنا أميركا في عمق الحرب" . ذلك الحدث الذي أيقظها وهي التي لم تهتم يوما لما يدور في أرجاء العالم.. بل ولا تهتم لعموميات وطنها.. منشغلة بحياتها وحياة أسرته ودراستها الجامعية "مذهولة كنت كغيري من مواطني هذا البلد". ليوقظها ذلك العدوان.. وتعترف بأن الحياد لا يجدي.. فبلدها يواجه حرباً حقيقية.. ولذلك استأذنت والدتها بالخروج من منزلهم والتوجه إلى بؤرة الكاثرة للتطوع ضمن فرق الإنقاذ والإغاثة.. ومن هنا تبدأ حياتها الجديدة.. بمشاركة المجتمع لهمومه والوطن لمشاكله.. ما اكسبها مفاهيم جديدة.. وعلاقات ومعارف واسعة.. لم تكن قد فكرت بها يوما.. فخلال اشتراكها في فرق التطوع تعرفت على امريكي أسمر "احمد" تنمو بينهما العاطفة.. يشدان الرحال بعد أشهر من العمل التطوعي إلى القدس ضمن فرق للأمم المتحدة.. أثناء ذلك كانت تقرأ مذكرات جدها.. تلك التي زودتها بها أمها.. لتكتشف أن لها جذور عربية.. ومن هنا تقرر زيارة جدتها في مدينة القنيطرة في المغرب برفقة صديقها أحمد. ذلك هو المسار الأول.
أما المسار الثاني فيرويه المجند في المارينز "كلارك". الذي يعود بالقارئ إلى أربعينيات القرن الماضي.. إلى أجواء الحرب العالمية الثانية. كلارك ترسو به السفن ضمن قوات امريكية في السواحل المغربية.. بعد أن أعلنت اميركا دخولها الحرب.. يستقر كلارك مع كتيبته في ضواحي القنيطرة.. ومن ثكنته يخرج في جولات استطلاعية ليكتشف المدينة وأحراشها.. يسير على ضفاف نهر سبو.. وخلال جولاته يتعرف إلى فتاة مغربية "الغالية" تدرس في فرنسا.. وقد عادت لقضاء إجازتها في بلدها.. ثم تعود لباريس.. تتعدد اللقاءات.. خلالها تنشأ علاقة قوية بينهما.. يرحل كلارك بعد أن تحط الحرب أوزارها ويلتقي بالغالية في أوربا ويتزوجا.
خلال ستة فصول ل كلارك يحكي أهوال الحرب.. بداية من هجوم هتلر غربا واكتساح قواته لعدة دول.. وصولا لاحتلاله لباريس.. وتهديد إنجلترا. مرورا باكتساحه لأرضي الاتحاد السوفيتي.. واعلان إيطاليا واليابان واسبانيا دخول الحرب ضد الحلفاء.. ونهاية بإبادة سكان هوريشما ونجازكي وابادة الحياة تماما.. مآت الملايين من البشر أبيدوا في هذه الحرب.
ليكتشف القارئ في نهاية مسار الحكاية أن كلارك ما هو إلا جد جانيت.. وأن الغالية جدتها.. وما كان يسرده كلارك في ستة فصول غير متوالية إلا مذكراته.. تلك التي كانت بحوزة أم جانيت والتي أمدت أبنتها لتتعرف على جذورها.. وأن جدتها لأمها هي مغربية.
المسار الثالث.. يذهب الكاتب بقارئه في رحلة إلى فجر التاريخ.. الراوي لهذا المسار هو طير الحربوش.. ذلك الكائن الذي لا يرتوي من الدماء.. فبعد أن أستدعى الكاتب أسطورة طرد حواء وآدم من الجنة.. ومكابدتهما لحياة الأرض.. يحكى أن آدم أثناء خروجه من "كهف" للبحث عن طعام.. كان قد صادق عصفورا صغيرا وجميلا.. دوما ما يطربه بزقزقات عذبة.. إلا أن ذلك العصفور يتحول إلى طائر ضخم جارح "حربوش".. وكان ذلك التحول نتيجة ارتوائه من شجرة امتصت جذورها من دماء أول قتيل من بني آدم.. ليصبح في حاجة الدم كي يعيش.. وكلما شرب يزداد حجمه.. وتتسع أجنحته.. مع أول موجه جفاف و تجف تلك الأشجار.. ليتحول الحربوش إلى دماء البشر.. باحثا عن الأروح الشريرة ليدفعها للمزيد من سفك الدماء.. وهكذا تزاوج روحه بأرواح الأشرار لإشعال الحروب.. لتدور ساقية الدم.. وتنتشر حروب جديدة كلما انطفأت بعضها.. عبر العصور.. يدفع الحربوش بأولئك المتعطشين للسلطة.. بداية بحروب موغلة.. كحروب الإسكندر.. ثم جنكيز خان.. ورتشارد قلب الأسد .. إلى الحرب العالمية الأولى.. ثم الثانية. إلى حروب أفغانستان والعراق... وهكذا ظلت روح الحربوش تدفع المتعطشين لمزيد من القتل والتدمير.. حتى يرتوي.. محاولا احتضان العالم بين جناحية...
عشرون فصلاً تناوب على سرد أحداثها.. ثلاثة رواة من جانيت.. إلى كلارك.. ليأتي الطائر الخرافي "الحربوش" ثالث الشخصيات في تنوع للأصوات.. بشكل يدعو للاعجاب.
برع الكاتب في تلك النقلات.. وربط تلك الأحداث المتباعدة من خلال وحدة الموضوع "سيرة الدم". ليربط بين أصقاع الزمن والمكان.. في ثلاثة أزمنة متباعدة.. وافق جغرافي يشمل الكرة الأرضية.
فهل ما بين يدينا رواية فلسفية.. أم تاريخية.. أم أنها جغرافية.. أنها معرفية لما احتوت عليه من كم معرفي متنوع.. أم أنها رواية وصفية بامتياز.. حيث تجلت قدرة الكاتب على الوصف الممتع للأمكنة. أم أنها كل ذلك...
وجهة نظر كلارك كانت واضحة.. لغة الحربوش مميزة.. أسلوب جانيت في سرد ما عاشته كان مختلف.. وبذلك التنوع نجح الكاتب في الإفلات من شرك تشابه لغة الرواة.. لظهر التابين الممتع بين خطاب شخصية وأخرى. وقبل نهاية قرأتنا.. يجب أن نعرج على دلالات الأسماء.. من جانيت.. إلى كلارك.. ثم إسراء.. والحربوش.. وأحمد.. وميري.. وشام.. والغالية.. تشان.. ريتا.. سلمى .. وخالد. وبالذات الحرب بوش.. فهي واضحة.. ففي عهد بوش الأب وبوش الابن خرجت اميركا من عقالها ولازالت إلى اليوم.. تسفك الدماء باسم محاربة الإرهاب.. ونسيت بأنه من صنعها.
كم هو رائع أن يتجاوز الكاتب نفسه من عمل إلى آخر.. والأجمل تجاوز مجايليه.. أن تحمل أعماله شيء من الجديد.. وهذه الرواية بالذات مختلفة بتقنيتها.. ما يدعونا لأن نهمس في مسامع الكاتب: المزيد من التجريب أيها الفنان.. المزيد من التجديد. فتعدد المسارات.. وتعدد الأزمنة.. أمر يبعث في نفس القارئ الدهشة والإعجاب.
الوصف .. كان متوازنا بين سرد الأحداث وتلك الوقفات الوصفية القصيرة.. ما أعطى القارئ إيحاء بإيقاع متوازن.. إذ أنه ما أن كان يمنح القارئ شيء من الاستراحة من خلال وصف الطبيعة وتلك المدن بأسواقها خاصة في المغرب.. حتى يعاود إلى سرد الأحداث لترتفع وتيرة الإيقاع والإدهاش.. بل أنه في فصول كثيرة كان يمزج بين الوصف والحدث. وهذه قدرات لا يمتلكها إلا صاحب تجربة.
نهاية الرواية لم تكون واحدة.. حيث أدار الكاتب ثلاث نهايات متفرقة بفنية عالية.. فنهاية مسار الحرفوش توقفت في ص138 قبل آخر صفحة بثلاثين صفحة.. ومسار كلارك ينتهي في الصفحة146 لتستمر جانيت تحكي أحداث ثلاثة فصول دون إنقطاع.. وهي الفصول التي تنقلنا من الحياة في اميركا.. إلى الحياة في المغرب أثناء رحلتها لتتعرف على جدتها الغالية.. تزور مراكش.. والبيضاء والرباط.. ومدن أخرى.. لتنتهي بالقنيطرة مدينة جدتها. ثلاثة فصول أخيرة.. جعلها الكاتب جولة وصفية للوطن المغرب بمدنه وتضاريسه وأنهره وعالمه.. لنراها من خلال عيون جانيت التي كانت تصف ما تعيشه ورتاه بقلب ودود وعيون محبة لحياة ذلك المجتمع الذي أحست بانتمائها إليه.. كما هو شعور أحمد رفيقها ذا الجذور الافريقية.
رواية تدفع شغفنا لأن نسأل الكاتب ماذا بعدها أيها الفيلسوف.
إضافة تعليق