الليبي إبراهيم الكُوني راوي الصحراء الكبرى وسجينها

 

بقلم .. كاتيا الطويل 

 

يُعرف عن الكاتب الليبيّ إبراهيم الكُوني ارتباط موضوعات أدبه وكتاباته ارتباطاً وثيقاً بالصحراء وجوّها وأساطيرها وفضائها الروائيّ وقصصها وهمومها وطباعها. وقد صدرت حديثاً رواية جديدة له بعنوان "طفولة الزمن شيخوخة العدم" (المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر)، ومن الطبيعيّ والمنطقيّ والمتوقّع أن يكون هذا العمل منبثقاً من صلب الصحراء بامتياز. وقد بلغ عدد مؤلفات الكُوني 89 كتاباً، وهذا رقم لافت جداً لم يبلغه ربما نجيب محفوظ، بينما لا يزال الكُوني في السبعينات من عمره.

يقسم الكُوني روايته إلى تسعة أقسام كُبرى يتضمّن كلّ منها فصولاً لا يتعدّى الواحد منها الصفحات القليلة عموماً، ويختار أن يبدأ الكُوني أقسامه الخمسة الكبرى الأولى بجملة "مع حلول الغسق أيقنتُ بعدم الجدوى". فيُظهر هذا التكرار للقارئ الشعور بعبثيّة الحياة الذي يتحكّم بالكاتب ويسيطر عليه، كاتب هو نفسه الراوي الذي يُدعى إبراهيم ويتكلّم بصيغة المتكلّم المفرد أنا، فيقول: "إبراهيم: هو إسمي!" (ص: 210).

ويلاحظ القارئ أيضاً جوّ الشاعريّة الطاغي على أسلوب النصّ منذ بدايته ومنذ العنوان حتّى، جوّ من الشاعريّة والوصف المطعّم بالصور البلاغيّة والمجاز يسلّط الضوء على لعبة الوقت والصراع بين الوجود والعدم: "في طفولتنا كانوا يخفون عنّا كلّ شيء. يخفون عنّا حتّى صِلات القرابة التي تربطنا ببعض، لأنّهم لا يرون جدوى من علمٍ بأيّ شيء ما دام شبح العدم سوف يرث كلّ شيء." (ص: 191).

لغة المجاز

وقد يأخذ قارئ هذا العمل على أسلوب الكُوني مآخذ متعدّدة، فاللغة الشاعريّة المغرِقة بالمجاز تتقدّم وتسيطر بشكل واضح على حساب السرد والأحداث والحبكة، كما أنّ الوصف في مواضع كثيرة طويل وكثير وغير مبرّر ويمكن حذفه. فهناك فصول بأسرها يمكن الاستغناء عنها لكونها تصف أمور الصحراء من دون أي مبرّر أو علاقة بتطوّر الأحداث وشخصيّة الراوي، وهي كانت وردت كثيراً في كتب الكُوني السابقة. من بين هذه الفصول الكثيرة التي يقع عليها القارئ فصل مخصّص للفصول وآخر لنوع من النبات وآخر للظلّ وآخر فيه تفسيرات لغويّة ومعجميّة لأسماء نباتات مثلاً. لقد خرج الوصف في هذا العمل عن وظيفته في تحديد إطار السرد ليتحوّل هو نفسه إلى جوهر الكلام. وعلى الرغم من أنّ المكان، أيّ الصحراء، هو البطل، وعلى الرغم من ضرورة تحديد الجوّ السرديّ العامّ عموماً، إنّما هذا الوصف المغرق بالتفاصيل والمجاز أبطأ السرد وجعله في خلفيّة النصّ ومحا الحبكة وتطوّر أحداثها. بالإضافة إلى ذلك يلاحظ القارئ طول الجمل وكثرة الفواصل، فقد تمتدّ جملتان اثنتان فقط على مقطع كبير، كما قد تمتدّ جملة واحدة على صفحة أو أكثر (ص: 22؛ ص: 88-89 جملة واحدة).

من خصائص أسلوب الكُوني في نصّه هذا اعتماده في مواضع كثيرة جملاً وصفيّة تفسيريّة تنتهي بكلمة مسوّدة يكون من المُراد تسليط الضوء عليها، كمثل: "كلّ ما فعلته بي ليس سوى استجابة منها للنداء الذي يسري في دمها، تماماً كما جرى دوماً في دمي، وفي دم كلّ صغير حديث العهد بالصحراء مثلي، ألا وهو: اللهو!" (ص: 86) يكثر هذا الأسلوب التفسيريّ المعزّز بالنقطتين والتعجّب وتسويد الكلمة في نصّ الكُوني، ما يضفي على النصّ شيئاً من الثقل في التعبير أو أقلّه يجعل القارئ يشعر وكأنّه يُعامل معاملة الذي يجب تلقينه الوصف والكلمات وهو ليس أسلوباً روائيّاً سلساً.

بين الأسطورة والتقرير التاريخيّ

يُلبس الكُوني صحراءه رداء الحرّيّة والانتماء والأمومة إنّما أيضاً يجعلها رديفةً لليتم والعزلة والقسوة. ففي رحلة رمزيّة يقوم بها الراوي مع قطيع من جدائه يكتشف حقيقة قسوة الصحراء هو الذي أضاع قطيعه وأضاع طريق العودة، ليتحوّل الكُوني إلى يوليوس معاصر يهيم على وجهه في الصحراء الكبرى. راوٍ صغير تائه في الصحراء الكُبرى في جوّ من الخشية والتوجّس والرعب، راوٍ صغير يصبح البرد عدوّاً له وكذلك الشمس والذئاب والظلّ والرمل والليل وكلّ ما يحيط به. طقس نضج وتحوّل من عمر الطفولة إلى عمر الرجولة لا بدّ أن يمرّ به أبناء الصحراء جميعهم. نهار وليلة ونهار آخر يمضيها الراوي هائماً على وجهه قبل أن يتتبّع آثاراً تقوده إلى واحة بعيدة في نوع من الرمزيّة والسرد الملحميّ. ويمتدّ هذا الضياع في الصحراء على فصول طويلة سردها بطيء ومتقطّع تتخلّله أسطورة في الفصل الثالث والثلاثين تشكّل أطول فصول العمل.

ويلفت انتباه القارئ وجود هذه الأسطورة الواردة في نصف النصّ تقريباً، أسطورة الفتاة تانّس وشقيقها، التي لا تمتّ للسرد وللراوي وللحبكة بأيّة صلة واضحة. وما يلفت انتباه القارئ أكثر هو انتقال الكاتب في قسميه الأخيرين من النصّ إلى أسلوب التقرير التاريخيّ. فالقسم الثامن والتاسع كلاهما مخصّصان لتاريخ البدو وأبرز أحداث سيرتهم السياسيّة وانتقالهم من الصحراء إلى المدينة بالإضافة إلى تفاصيل السيطرة الإيطاليّة والسيطرة الفرنسيّة وصراعات رجال السياسة والقبائل آنذاك، وذلك في لغة جرائد تقريريّة جافّة وخالية من الصنعة.

قد يستغرب قارئ عمل الكُوني ألاّ يستوفي هذا العمل شروط العمل الروائيّ بمعناه البسيط والأوّلي والأساسيّ على الرغم من تصنيف العمل على صفحة الغلاف ضمن فنّ الرواية، فيكتسح الوصف التفصيليّ الدقيق للصحراء معظم فصول الرواية، فيطغى الوصف بشكل واضح على السرد ويحجبه، كما تغيب الشخصيّات بقصصها وسماكتها النفسيّة وتحرّكاتها، لتنحصر الحبكة بالصحراء ووصفها والتوقّف عند الأزمنة التاريخيّة السياسيّة التي مرّ بها البدو قبل مسألة توطينهم وبعدها، أيّ حوالى أواخر خمسينيّات القرن العشرين.

"طفولة الزمن شيخوخة العدم" عمل الكُوني الأكثر حداثة والمؤلّف من حوالى 283 صفحة، إنّما هو عمل بطيء السرد، كثير التفاصيل، متشعّب الصور البلاغيّة، يجمع بين قصّة شبه غائبة، وأسطورة غريبة، وتقرير تاريخ جافّ، بشكل غير منصهر وغير مبرّر يحوّل النصّ إلى نصّ هشّ بطيء غير متماسك تماماً للأسف.

اندبنت عربية 

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص