صراع الزمن مع الموت في فيلم الينبوع

 

 

               

             سهير السمان

 

في قصة تختصر الزمن الممتد لتجعله زمنا واحدا، يجسده شخصية واحدة، تدور أحداث فيلم الينبوع The Fountain  الذي كتبه وأخرجه (دارين أرنوفسكي ) وقام بأداء الأدوار كل من "وجيو هامن " و "راشيل وايز"

في إطار روحي وقصيدة شعرية. يحكي الفيلم قصة رجل يُدعى “توماس” يتواجد في  ثلاثة أزمنة ، ففي الزمن الأول هو القائد الذي تعيّنه ملكة اسبانيا “ايزابيلا” على رأس جيش بمهمة خاصة لاكتشاف “ينبوع الحياة” في أمريكا والرجوع به لحماية عرشها من الزوال وتخليده. حيث يقع التهديد من محقق في زمن محاكم التفتيش، فنجده يرمز إلى السرطان الذي ينتشر ويهدد الحياة، حين يتكرر في الزمن الحاضر على شكل الوباء الذي يصيب إيزي زوجة تومي. وهو الزمن الثاني الذي يكون فيه توماس جرّاح أعصاب، يسعى جاهدا لشفاء زوجته إيزي من ورم في  الدماغ  متحدّيا هشاشة الوجود الإنساني وضعفه أمام الموت.

أما الزمن الثالث الذي يمثله توم، حيث يكون آخر من تبقّى من الجنس البشري كما  وصفه المخرج دارين ارونوفسكي. يقود رحلة فضائية إلى عالم النجوم و”الشيبالبا” وهو العالم الذي تذهب إليه الأرواح بعد الموت ليُعاد استنساخها بحسب حضارة المايا آملا في أن يهزم الموت مرة أخرى ويعيش إلى الأبد، وأن يعيد إحياء زوجته ايزابيل التي ماتت وتحولت إلى “شجرة الحياة” التي أخذها معه إلى الفضاء.

في حين نجد أن (الينبوع) هو اسم الكتاب الذي كانت تكتبه (إيزي) زوجة (تومي) ولم تُنهيه بسبب موتها. بعد أن طلبت من (تومي) وهي على فراش الموت أن يُنهي آخر فصل في كتابها. فيرفض (تومي) ذلك وهو في الحقيقة يرفض الاعتراف بأنَّها ستموت. فقصّت عليه قصة أخبرها بها المُرشد السياحي عن قبائل المايا، وهي أنَّه عندما مات والد أحدهم زرع فوق قبره بذرة شجرة، وبمرور الوقت نمت الشجرة لِيُصبح والده جزءًا منها، وعندما أكل طائر من ثمار الشجرة، طار والده مع الطائر في السماء، أو هكذا كان يظن المُرشد. كانت تخبره بهذه القصة؛ لأنَّها تُريده أن يتقبل موتها، أن يرضى هو الآخر بفكرة موتها.

تموت (إيزي) وينهار (تومي)، يرفض فكرة موتها ويرفض الوقوف على قبرها مُتجهًا إلى مختبره ليستكمل أبحاثه، والتي سيكون هدفها الصريح الآن ليس علاجًا للمرض بل علاجًا للموت ذاته، وكأنَّ الموتَ هو مرضٌ يمكن الشفاء منه. وفي النهاية نرى تومي واقفًا على قبر (إيزي)، وهو يضع بذرة على قبرها مُودعًا إياها، فيما معناه أنَّه تقبّل أخيرًا حقيقة موتها.

وهذا ما أراد الفيلم أن يوصله للمشاهد في ظلّ عالم الحداثة السائل (كما يسميه باومان)، الذي تذوب فيه كل الثوابت، والذي يسعى فيه الجنس البشري جاهدا لتسخير العلم لمناهضة الطبيعة والوصول إلى إنسان خالد (Immortal) متمركز حول نفسه ولا شيء غيرها، وفي هذه الحضارة التي يصفها ارونوفسكي ” المهووسة بجراحة التجميل والسعي الدائم نحو تخليد الإنسان”، يأتي The Fountain ليقدّم رؤيةً مغايرة، تعيد الإنسان إلى حجمه وهشاشته دون أن تلغيه، ولتقدّم الموت كجزء جميل ومميز من هذا الوجود لا تقوم الحياة إلا به، فلا وجود بلا فناء، ولا حياة بلا موت. وهي فكرة نجدها بشكل أو بآخر في معظم الأديان والتعاليم الروحية التي اتّبعها الإنسان منذ القدم.

 

فكرة الزمن والموت في الفيلم

 

طرح الفيلم فكرة مهمة عن الزمن، وهي أن الزمن واحد، وحكايته واحدة مع الإنسان، الشخصيات جميعها تسعى إلى الخلود، بينما الخلود هو في الموت ذاته، الشجرة التي تظل راسخة وتقاوم الفناء، تضع بذورها لتستمر، كذلك النجم الذي يموت بعد انفجاره يهب الحياة عبر السديم.

(توم) هو نفسه (تومي)، ولكن بعد مرور خمسمائة عام، والشجرة الهائلة التي كان يتحدث إليها (توم) في الفضاء هي البذرة التي زرعها على قبر إيزي، والتي نَمَت لتصبح بهذا الشكل.

 استطاع توم أن يعيش كلّ هذا العمر، ولكنّه لم يستطع أن يستعيد (إيزي) أو ينساها حتى، وبرغم غيابها فهي كانت السبب في نجاته، كما كان يهمس لنفسه. فذلك الوشم الغريب على ذراع (توم) يُمثّل عدد السنين التي قضاها بعد موت (إيزي).

“كلّ هذه السنين، وكلّ هذه الذكريات كنتِ أنتِ، أنتِ من جعلني أنجو عبر الزمن”. آمَنَ (تومي) بصدق أُسطورة المايا التي أخبرته بها (إيزي)، وتمكن بشكلٍ ما بفضل التكنولوجيا المتقدمة في ذلك الزمن من أن يُسافر عبر الفضاء نحو (شيبالبا)، تُرافقه الشجرة التي نمت فوق قبر (إيزي).” لا تقلقي كدنا أن نصل، قريبًا ستموت شيبالبا، وعندما تنفجر، ستولدين وتُزهرين من جديد، وأنا سوف أحيا”

أنهى تومي/ توم قصة (إيزي) بنهاية تُشبهه، وتُشبه ما كانت (إيزي) تؤمن به. الفصل الأخير من الرواية يظهر في المشهد الذي يتجسد فيه (الأب الأول) على هيئة (توم) كما نعرفه  في جسد (توماس) لحارس الشجرة، ممّا يجعله يظن أنَّه أمام معجزة، فيُقدّم نفسه فداءً له بعدما كاد أن يقضي عليه، وفعلًا يجد (توماس) نفسه أمام شجرة الحياة بذاتها.

عندما شرب (توماس) من شراب شجرة الحياة، انبثقت الشجرة من معدته كما حدث للأب الأول، حتى صار جسده كله جزءًا منها. كان يظن أنَّها ستمنحه الخلود بالمعنى الذي نعرفه جميعًا، وهو أنَّه لن يموت، ولكن ما حدث هو أنَّه عاش ولكن بطريقة أُخرى، أصبح جزءًا من الحياة، لم ينتهِ بل بدأ بدايةً جديدةً.

أمّا (توم) فقد قرّر أن يجعل من موته هو نفسه حياةً يُهديها لشجرة (إيزي)، فعندما اقترب توم من (شيبالبا) نجده يخرج من الفقاعة التي تحميه ليصبح جسده كله حرًا في الفضاء، ونشاهد فيما يبدو انهيار جسده الذي لم يحتمل القوى الهائلة الموجودة قرب النجم المُحترق، لنجد بعدها الشجرة قد ازدهرت ونمت ورُدت إليها الحياة من جديد.

 

 

 

 

 

 

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص