صدر في القاهرة العملُ الروائي "وجه القمر"، للكاتبة اليمنية أوسان العامري، في (196صفحة)، عن دار المصرية السودانية الإماراتية للنشر والتوزيع 2020م. وحصد المركز الثاني من جائزة محمد عبد الولي للقصة والرواية، الدورة الأولى 2021م.
شخصيةُ الرواية الرئيسة ثريا، فتاةٌ مجهولةُ النسب ـــ لقيطة ـــ قبل عقودٍ ثلاثةٍ وجدها العم صالح على مقربةٍ من المسجد، حملها إلى منزله، وعاشت في كنفه مغمورةً بحنانه وأبوّته. عاشت في ريعان نموها الوجداني تجربةَ حبٍّ انتهت من طرف الحبيب حينما عرف حقيقة نسبها التي عرفتْها هي الأخرى؛ فأصيبتْ بصدمةٍ عصيبةٍ، شُفيتْ منها، ومن ثم تزوجها ـــ على حقيقتها تلك ـــ طبيبٌ نبيلٌ مغدورُ العاطفة مثلها.
سرديةُ الأحداث في هذا العمل، تبدأ من اللحظة التي سمع فيها العم صالح شخصين يتحدثان عن عثور أحدهما على مولودٍ حديثٍ مجهول الأبوين. حديثهما استدعى في ذاكرته قصة ابنته ثريا، تصفح في هاتفه صورتها وصورة ابنتها، لقد مرت سنتان على آخر لقاءٍ له بهما، تذَكّرَ أن تاريخ ذاك اللقاء كان: 1ــ6ــ2019م. تساردت في ذهنه ـــ من لحظة الحوار تلك ـــ أحداثُ ثلاثين سنة مضت، ومنها تخلّق هذا العمل الروائي بتقنيةٍ استرجاعيةٍ، بدءً من 1ـــ6ـــ1990م، يوم العثور على ثريا، وهو اليوم الذي توافق تاريخُه مع تاريخ اليوم والشهر المؤَرخ به آخرُ لقاءٍ للعم صالح مع ثريا وطفلتها، ولا تظهر في سردية الأحداث ضمنيةٌ تفسيرية لهذا التوافق بين التاريخين. ومن "حي البساتين"، في مدينة عدن، اتخذ هذا العمل السردي حيزًا مكانيًا لأحداثه، التي سُرِدتْ على لسان الراوي العليم؛ وفقًا لتقنيةٍ يقتصر حضورُه فيها على ما يفي بالحاجة إلى نظم السياقات السردية، متيحًا المجالَ للشخصيات وروايتها لتفاصيل من حياتها.
التبئير الذي اشتغلت عليه الروايةُ هو أزمةُ الشباب والشابات في مستهل حياتهم الوجدانية، حيث يعيشون صراعًا ذهنيًا وعاطفيًا بين خياراتٍ متعددةٍ لشريك الحياة المأمول، تغلب على هذه الأزمةِ التقاطعاتُ والازدواجيةُ في المسارات العاطفية، كما يغلب عليها الارتباك والحيرة والوقوع في شرك الحب من طرفٍ واحد، وهو ما اتسمت به تجاربُ الحب في هذا العمل السردي. ولم تشمل هذه السمة ثلاثًا من تجاربه التي كانت متسمةً بانسجامِ طرفي الحب فيها، وتناغم مشاعرهما، وانسحاقهما في النهاية بفشلها وتداعياته القاسية.
تجربةُ ثريا الوجدانية واحدةٌ من هذه التجارب الثلاث، مال قلبُها إلى ابن جارهم الشاب فهد، كثيرًا ما ترددت على منزل أسرته بحكم صداقتها مع أخته هند، التقتْ عيناهما من حينٍ لآخر، وقعت في قلبه، عاش حبها بينه وبين نفسه، لم يتضح له موقفها منه فلازمته الحيرة. وفي المقابل كان هو هدفًا لحبٍ من طرفٍ واحد، حب سهى ابنة خالته. وحبٌّ آخر من طرفٍ واحدٍ كان في تجربة أخته هند تجاه زميلها الجامعي مجاهد، الذي كان هو الآخر واقعًا في الحب من طرفٍ واحد، مُحبًّا صديقتها ثريا. بَلَغَتْ حالُ هند ذروة الأسى حينما طلب منها الحديث مع صديقتها حول حبه لها، انصدمت، واربت صدمتها، وفاتحت ثريا، لم تجد له مكانًا في قلبها، وتوَلَّتْ ثريا بنفسها مهمة إبلاغه بموقفها. التقت بمجاهد، صارحتْه بفراغ قلبها منه، وكاشفتْه بعاطفة هند تجاهه، لم تفاجئه المكاشفة، فقد فهم الأمر من ملاحظته اهتمام هند به، لكنه رضخ للفارق بينهما في مستواهما الاجتماعي، الذي لم يجد مناصًا من حيلولته دون مرادهما.
توقفت تجربةُ مجاهد وهند، وتَفَهَّم مجاهد موقف ثريا منه، بينما استمرت تجربة ثريا وفهد، كلٌّ منهما محتفظٌ بها لنفسه، حتى التقى فهد بصديقه فريد، سمع منه مصيبته في خسارته حبيبته أسيل، كان قد خطبها رسميًا، ومن ثم غادر الوطن ليفي باشتراطات أبيها، استبطأ الأب عودة خطيب ابنته، فحسم أمره، عاد الغائب، فصعقه خبر انتحار حبيبته بالسم حينما ألغى أبوها خطبتهما، وأجبرها على الزواج بآخر، فعاثت بالحبيب نوبةُ حزن دائمة. أشفق فهد على صديقه، وبدوره حدّثه عن حبه لثريا، وعن حيرته في موقفها منه، وغيرته من مجاهد الذي كثيرًا ما رآه مبالغًا في الاهتمام بها، وخشيته من أن يكون هو المستحوذ على قلبها. أشار عليه صديقه بالحديث معها، تشجّع بعد تردد، كانت فرحتُه عارمة حينما وجد مكانه في قلبها. لفتتْ انتباهَه إلى الفارق بينهما في المستوى الاجتماعي، وما يمكن أن يترتب عليه من حيلولةٍ دون اكتمال فرحتهما، لكنها اطمأنت إلى موقفه الحاسم في استحالة تخليه عنها مهما كانت العوائق، عمَّدا اللحظة بالعهود على الوفاء.
رفضتْ أم فهد رفضًا قاطعًا فكرة ارتباطه بثريا، لم تلمس بصيصَ أملٍ في موقفه، فرفعت في وجهه سر ثريا، السر الذي لا تعلمه ثريا نفسها، أمه وأبوه والعم صالح وزوجته هم من يحتفظون به. انصدم فهد بحقيقة ثريا كربيبةٍ مجهولةِ الأبوين، غادر الوطن محبطًا، بعد أن ترك لحبيبته رسالةً مع أخته هند. قرأت ثريا الرسالة، وأُشْكِلَ عليها فهْمُها، طلبت من هند فك غموضها، واستحلفتها بعد أن وجدت منها تلكؤًا، فسرت هند الرسالة، صُعِقتْ ثريا بحقيقتها، فأُغمي عليها. وبعد أيام من صدمتها العصبية تماثلت للشفاء وبارحت المشفى، ولم يتماثل للشفاء قلبُها من انكساره وجراحه الغائرة. بعد إلحاحٍ عليها من أسرتها ومن الطبيب سامر استأنفت العمل في عيادته.
كان قلب سامر قد مال إلى ثريا منذ أن بدأت العمل ممرضةً في عيادته، وبعد أن تجاوزت أزمتها، كاشفها بحبه، لم يلق تجاوبًا منها، فاتح أبيها في الأمر، كاشفه العم صالح بحقيقة نسبها ودور هذه الحقيقة في تخلي حبيبها عنها، لم تَحُلْ هذه المكاشفة دون قراره في الارتباط بها. لقد كان سامر مثلها مجروح العاطفة، لم يظفر بحبه الأول، ابنة عمه سمر، حالت بينهما خلافاته مع أبيها، سُدّت الطرق في وجهيهما، أحرقهما البكاءُ لحظة توادعهما، أجبرها أبوها على الزواج بمن لا مكان له في قلبها، ويوم عرسها أجهشت بالبكاء في حضرة الجمع، وصلت أخبارها تلك إلى الحبيب المحزون، فأصيب بشللٍ عاطفيٍّ، لم يُشْفَ منه إلا بحب ثريا.
ترتيباتُ عرس سامر وثريا توقفت، حينما اندلعت الحرب في مارس 2015م، ودخل الوطن في أتونها المستعرة، ونال المدنيون والأحياء السكنية النصيب الأوفر من كارثيتها التدميرية، وعاشت تبعاتها المأساوية عدن، المدينة المجبولة على السلام والتسامح العرقي والديني طيلة تاريخها. كان من ضحايا الحرب مجاهد ـــ الحبيب الذي لم تحفل به ثريا ـــ سحقها الحزن وهي تشاهد جنازته، لم يكن أول ضحية للحرب في أسرته، فقد سبقه أخوه الأكبر مهند في حرب صيف 1994م، وتلاه أخوه ماجد في جمعة الكرامة 2011م، والتحق بهما أخوهما الثالث مجاهد في حرب 2015م. خرجت عدن من محنة الحرب، وعادت الحياة إليها بتدرجٍ مكلوم، استأنف سامر تجهيزات العرس، وحان الموعد، فكان عرسًا مشهودًا، سلم فيه العم صالح الأمانة إلى سامر الذي اطمئن إليه.
لقد التأم في العرس قلبان، كلاهما فتكتْ به تداعيات الحب المفقود، هي تخلى عنها حبيبها فهد، بسبب حقيقتها التي لا يد لها فيها. وهو تخلى عن حبيبته سمر بسبب خلافه مع أبيها الذي لا يد لها فيه. كلاهما كانت تجربتا حبهما مأهولةً بطرفيها، كما أنهما تجربتا حبٍّ مغدور، وُلدت منهما تجربةُ حبٍّ جديدة، في مراسيم عرسٍ كان صورةً من صور الحياة التي استأنفت بها مدينةُ عدن احتفاءها بالحب والسلام، وانتصارها للحياة في وجه الحرب من بين أنقاض الدمار.
*أستاذ الأدب والنقد الحديث المساعد، جامعة عدن
إضافة تعليق