من الواضح أن استخدام الجماهير لإيصال الرسائل أضحى وسيلة بديلة عن المؤسسات الدستورية، ولم يكن مفاجئاً أن تخرج الجماهير الموالية للرئيس السابق علي عبد الله صالح ولجماعة (أنصار الله - الحوثيين) إلى أهم ميادين صنعاء، كما كان يحدث في الماضي القريب عندما انقسم اليمنيون في الفترة بين ٢٠١١ و٢٠١٢، وصارت ميادين العاصمة ساحة يستظهر فيها كل طرف قوته وقدراته في الحشد بغض النظر عن الكيفية التي اجتمعت فيها.
الرسالة التي أراد صالح والحوثي إيصالها بالحشود التي اجتمعت في ميدان السبعين تحت شعار تأييد الإعلان عن المجلس السياسي الأعلى لم تكن غامضة الأهداف، وجاء المشهد تعبيراً عن حالة الاستقطاب التي تترسّخ في المجتمع، والمثير للدهشة هو الطرف الآخر الذي يمثل "الشرعية" ويعيش حالة ارتباك واضحة على أدائه ولم يتمكن من الخروج من دورة العجز والارتخاء فيثير فزعه وقلقه كل تحرّك تقدم عليه سلطة الأمر الواقع في صنعاء، وليس مرد ذلك جديّة ما يحدث في العاصمة، ولكن لعدم وضوح الرؤية لدى ضيوف "موفينبيك" الرياض.
خلال الأيام الماضية استدعى الرئيس السابق كل مهاراته في خلط الأوراق وإرباك الساحة اليمنية، فقام بإقناع الحوثيين برفع أيديهم عن مجلس النواب ودعوته للانعقاد في جلسة لا تختلف عما كان يحدث في السابق، وبدوره واصل أعضاء مجلس النواب عبثهم المعتاد بالدستور واللوائح فسمحوا لهيئة غير شرعية المثول أمامهم وتأدية اليمين الدستورية، ضاربين عرض الحائط بأبسط حقوقهم وحقوق ناخبيهم، ناهيك عن حق المجتمع كله.
كان المشهد مثيراً للسخرية بامتياز وكان من الممكن أن يمر دون أن يلتفت أحد إليه، لكن رد فعل ضيوف "الموفينبيك" كان باعثاً للشفقة عليهم إذ أفزعهم أن تتشكّل هيئة جديدة في صنعاء توهّموا أنها يمكن أن تنازعهم حقوقهم وتنزع عنهم أسباب الراحة، والطرفان في المُجمل لا يمكن التعويل عليهما لتحقيق السلام الداخلي.
الحل الذي خرَجَت به "الشرعية" لمواجهة "سلطة الأمر الواقع" في صنعاء هو السعي لإحكام الخناق على البنك المركزي الذي يقف على رأسه المسؤول اليمني الوحيد الذي راعى ضميره واحترم شرف المهنة وحافظ على أمانتها قدر المستطاع، في ظل ظروف أقل ما يمكن وصفها بالمأساوية، لذا تجيء محاولات بن دغر وعدد من المستشارين لإقصاء محافظ البنك كي تصيب هذه المؤسسة بالاضطراب الذي سيكون المواطن ضحيّته وحده، ولعل الجميع يتذكر أن القذافي في ليبيا عاش و"أون" في كوريا يعيش تحت الحصار لسنوات ولم ينل من رخائهما ورفاهيتهما شيء، وتحمّلت الشعوب العبء كله وعانت وجاعت وهاجرت هرباً للبحث عن الأمان والعيش الكريم.
إن استخدام الجماهير لإظهار تأييدها للمشاريع السياسية لا يمكن أن يكون حجّة يعتد بها من يحشدون الناس إليها، وليست رخصة من الشعب للعبث بمستقبله، ومهما كانت البواعث النزيهة للذين شاركوا فيها تحت مبرّرات شتى وبقناعات مختلفة فإنها لا تمنح شرعية ولا مشروعية، فهي لا تعني إلا الحاضرين ولا تعبّر بأي صورة عن قناعات وطنية جامعة، ولا يُدرك من يدفع بها أنه يرتكب خطيئة تضاف إلى سلسلة خطايا الساسة والأحزاب، وإن هذه الحشود البريئة ستدفع ثمناً باهظاً لعدم استيعابها لما يدور خلف الكواليس وداخل الغرف المغلقة.
لقد مر اليمن بتجارب مماثلة تم فيها حشد الناس ولم تختلف شعارات الأمس القريب عن شعارات اليوم، واليمنيون ليسوا بحاجة إلى استنساخ تجارب الماضي القريب الكارثية ولا يهمهم الدخول في سباق جديد يحاول كل طرف إثبات أحقيته في حكم البلاد، لأنهما معاً أصبحا عبئاً ثقيلاً لا تعول الأغلبية عليهم، ولو كان الهم الوطني هو دليلهم لاختلف الأمر وتبدّل المشهد والقابعون داخله، لكنه صراع حول السلطة رغم محاولة الطرفين إخفاءه خلف ستار من الشعارات البالية.
- نقلا عن الراية القطرية