بعد التوصل إلى اتفاق للمصالحة الوطنية في نهاية 1969، وإقرار الدستور الدائم جرت الانتخابات الأولى لمجلس الشورى الذي ترأسه عبدالله بن حسين الأحمر، وكانت أولى مهماته في العام 1971، هي اختيار أعضاء المجلس الجمهوري الذي نص الدستور على أن يكون عددهم بين 3 و5 أعضاء، على أن تكون الرئاسة دورية بينهم. وقد أدى الأمر إلى الأزمة الأولى بين القاضي عبد الرحمن الإرياني وأحمد محمد نعمان.
كان المجلس الجمهوري، الذي يمثل رئاسة الدولة، المنتهية مدته بإقرار الدستور الدائم يتكون من خمسة أعضاء (القاضي عبد الرحمن الإرياني، وأحمد محمد نعمان، ومحمد علي عثمان، والفريق حسن العمري، وأحمد محمد الشامي).
وحدث عند إعداد الفصل الخاص بطريقة انتخاب أعضاء المجلس الجمهوري جدل حول طريقة اختيارهم.
فقد كان النعمان يصر على أن يرشح الراغبون أنفسهم بعد الحصول على تزكية عدد من الأعضاء، ثم تجري منافسة مفتوحة بينهم، لكن الرأي الذي انتصر منح الحق كاملاً في الاختيار، ثم الاقتراع على الأسماء لأعضاء مجلس الشورى.
لم يظن النعمان أن مخططاً يجري إعداده بغية استبعاده من عضوية المجلس الجمهوري.
وفجأة تلقى اتصالاً من القاضي الإرياني يطلب منه الحضور إلى منزله، وعند وصوله أبلغه أن مجلس الشورى قرر اختيار ثلاثة أعضاء لعضوية المجلس الجمهوري الجديد.
وبحسب رواية النعمان، فإن القاضي قال له (مجلس الشورى اختار لعضوية المجلس الجمهوري الفريق ومحمد علي عثمان والعبد لله وتقرر تكليفكم تشكيل الحكومة الجديدة)، ورفض النعمان التسوية، متهماً زميله ورفيقه بأنه ضالع في التآمر عليه.
وقال للقاضي والحاضرين، إنه لن يقبل بذلك، وإن على أحد الأعضاء الثلاثة تشكيل الحكومة وغادر فوراً.
ولحقه القاضي عبد الرحمن مقرراً رفضه الترشيح بعد تشكيك زميله وغادر إلى تعز ليعتكف فيها، معلناً أنه غير حريص على رئاسة الدولة ولا راغب في الصراع حولها.
كان النعمان مقتنعاً بأن مؤامرة ضده تم الترتيب لها بين كبار المشايخ لاستبعاده من المشاركة في الحكم لأنهم كانوا يرون فيه الحرص الشديد على احترام الدستور والمساواة في مواقع السلطة، وكانت لديهم تجاهه نظرة مشوبة بالحذر، لأنه كان يحمل فكراً ليبرالياً أكثر مما يحتملون أو يرغبون بالتعايش معه.
وخشية حدوث أزمة خانقة في بداية الحكم الجديد، توافد عدد كبير من الضباط والمشايخ إلى منزل النعمان في صنعاء، وأقنعوه بتولي رئاسة الحكومة، وأنهم سيتعاونون معه في كل الخطوات التي سيتخذها لتحسين الأداء الحكومي ووقف الهدر المالي.
توجه النعمان إلى تعز، والتقى القاضي الإرياني وتصافيا وعاد الود بينهما، ثم جاء التشكيل الحكومي في شهر أبريل (نيسان) 1971، واحتفظ فيه النعمان بوزارة الخارجية على أمل إقناع المرحوم محمد سعيد العطار بتوليها، ولكن الأخير اعتذر لأنه شك، وكان محقاً، في استمرار الحكومة لفترة طويلة.
ودخل الحكومة ممثلون لفئات عديدة من المجتمع بحسب التركيبة السياسية والقبلية التي كانت سائدة حينها، وكان من ضمن الشباب الأكفاء والمجربين الذين انضموا إليها المهندس محمد الجنيد، وأحمد عبده سعيد والمهندس أحمد قائد بركات ومحمد أنعم غالب، إضافة إلى مجموعة ممن مارسوا العمل الحكومي، واكتسبوا خبرة طويلة مقرونة بالنزاهة ونظافة الكف، مثل القاضي عبد السلام صبرة، والقضاة محمد إسماعيل الحجي ومحمد الربيع وعبد القادر بن عبدالله وأحمد جابر عفيف.
أدرك النعمان بعد فترة قصيرة من دراسة الأوضاع المالية والاقتصادية، أن الحكومة مفلسة وغير قادرة على الالتزام بدفع رواتب الموظفين في القطاعين العام والعسكري، فقرر مواجهة مجلس الشورى بالحقيقة ظاناً أنه سيتعاون معه لإيجاد حلول تحفظ حقوق الناس وتحافظ على كرامة البلاد، بعدما عجزت الحكومة في الحصول على قرض خارجي لسداد الرواتب، لأنها بلا موارد تضمن تسديدها.
فاقترح أن يتنازل كبار الموظفين، مدنيين وعسكريين، عن مرتباتهم ومخصصاتهم مقابل سندات حكومية. وأوضح أن صغار الموظفين لا يجوز أن يتحملوا أي عبء إضافي. ولكن أعضاء المجلس رفضوا أي حديث في هذا المجال.
ثم اتضح للنعمان، بعد اجتماعه مع نواب الشعب مطلع شهر يوليو (تموز) 1971، في جلسة سرية، أن تكليفه تشكيل الحكومة بعد إسقاط اسمه من قائمة المرشحين لعضوية المجلس الجمهوري، كان لتسهيل القضاء عليه سياسياً وعلى النهج الذي اختطه طيلة حياته في السير بعيداً عن التكتلات الحزبية والقبلية والمناطقية، ولم يشفع له تاريخه النضالي وسنوات السجن التي أمضاها في سجن حجة، ثم في السجن الحربي في القاهرة، أمام الرغبة المكتومة والإصرار القوي على إبعاده نهائياً من المشهد.
في اليوم التالي لاجتماع النعمان مع مجلس الشورى، بدأت تحركات علنية تُعد لتظاهرات تطالب بإسقاط حكومته وتحميله مسؤولية العجز الحكومي، وكان من الغريب اجتماع اليساريين ومشايخ القبائل، لتحقيق الهدف نفسه الذي لم يكن نابعاً من الحرص على كرامة البلاد، وإنما محفزه التخلص من محاولة تقليص تأثير المشايخ ومن يرتبط بهم مناطقياً ومذهبياً.
ولم يجد مفراً من مخاطبة الشعب مباشرة في كلمة أعلن فيها إفلاس الدولة وعدم قدرتها على سداد فوائد ما اقترضته حكومات سابقة، ناهيك عن سداد القروض ذاتها.
في كلمته التي صعقت الجميع، بمن فيهم القاضي الإرياني والطبقة السياسية، بدأ بتذكير المواطنين بالعهد الذي قطعه على نفسه حين قبل بالمهمة (حرصت على أن تكون المكاشفة بالحقيقة هي المنهج الذي أسلكه طوال بقائي في الحكم، وعلى هذا النهج الصريح أتوجه اليوم إلى الشعب بكل فئاته ومختلف قطاعاته، لأضع أمامه هموم الحكم التي أعيشها، كي لا يظن الشعب أننا ظفرنا بالثقة وقعدنا على كرسي الحكم وانتهت مهمتنا عند ذلك).
ثم خاطب المواطنين بالقول إن "كل شعب يشعر بكرامته، ويعتز باستقلاله يأبى أن يسمح لحكومته أن تذل، وأن تخزى وأن تقرع أبواب الآخرين تنشدهم الصدقة باسم المساعدة والعون، أو تطلب قروضاً للاستهلاك والإنفاق على أجهزتها وموظفيها".
ثم حاول النعمان إيقاظ ضمائر كبار الموظفين فخاطبهم "إنني أبدأ بنفسي وأتوقف خلال ثلاثة أشهر عن أخذ أي ريال يخص معيشتي، وسآخذ من الخزانة سنداً بذلك، ولا أطالب سوى القادرين على أن يصنعوا صنعي، ولا أتصور أنه لا يوجد عدد كبير من موظفي الدولة مدنيين وعسكريين لا يستطيع أن يعيش إلا بالمعاش".
*عن إندبندنت عربية